هذا حديث نبوي شريف، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم كلهم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال “سمعت الصادق المصدوق، صاحب هذه الحجرة، أبا القاسم ـ ﷺ ـ يقول: “لا تنزع الرحمة إلا من شقي”. قال الحاكم: صحيح، وأقره الذهبي، ورواه البخاري في الأدب المفرد، وقال ابن الجوزي: إسناده صالح، ورواه البيهقي وقال إسناده صالح، ورواه السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بالحسن؛ فالحديث يدور بين الصحة والحسن.
معنى لا تنزع الرحمة إلى من شقي
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ الرحمة رقة، وحنوّ يجده الإنسان في نفسه عند رؤية مبتلى أو صغيرٍ أو ضعيفٍ، يحمله على الإحسان إليه، واللطف والرفق به، والسعي في كشف ما به، وقد جعل الله ـ عز وجل ـ هذه الرحمة في الحيوان كله، يعطف الحيوان على نوعه وولده، ويحسن عليه حال ضعفه وصغره، وحكمتها تسخير القوي للضعيف، وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في هذه الدار التي ثمرتها المصلحة العظيمة في حفظ النوع رحمة واحدة من مائة ادخرها الله لنفسه يرحم بها عباده في الدارين فمن خلق الله في قلبه هذه الرحمة الحاملة على الرفق وكشف ضرر المبتلى؛ فقد رحمه الله بذلك في الجنان، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل.
وأما من سلبه ذلك المعنى من الرفق والرحمة وابتلاه بنقيضه من الغلظة والقسوة، فلم يلطف بضعيف، ولم يرفق بصغير، فقد أشقاه حالا، وجعل ذلك علامة على شقوته مآلا.
الرحمة وعلاقتها بالإيمان
-قال الطيبي ـ رحمه الله ـ : الرحمة في الخلق رقةٌ في القلب، ورقته علامة الإيمان ومن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يُرزق الرحمة شَقِيَ.
-وقال ابن العربي ـ رحمه الله ـ: الرحمة إرادة المنفعة، وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره لذهاب الإيمان أو الإسلام عنه ـ قال ـ ﷺ ـ: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه وبدنه. والمؤمن من أمن جاره بوائقه”.
وكما يلزم أن يسلم من لسانه ويده يلزم أن يسلم من عقيدة المكررة فيه؛ فإن اليد واللسان خادمان للقلب؛ ولذلك قال الله تعالى لنبيه ـ ﷺ ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ” (آل عمران: آية 159)، “وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” (آل عمران: آية 159)، وقال تعالى عن اليهود: “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ” (المائدة: آية 13).