من كان تائبا عائدا آيبا إلى الله رب الناس، فإن الله ينتظره، ويفرح بعودته وتوبته ، ويأخذ بيده إلى الخير متى وجد منه استعداد للإصلاح ، وندما على ما فات ، وحاول أيها التائب أن تتعرف إلى صحبة صالحة من المسجد تأخذ بيدك ، وتذكرك إذا نسيت ، وتعينك إذا ذكرت ، فتكون كالسياج لك من الشيطان ، فالشيطان قريب من الواحد بعيد من الاثنين.
حكم قضاء الصلاة لمن كان تاركا لها:
لكل صلاة وقت لا يجوز تأخيرها عنه ، وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة من الكبائر باتفاق العلماء ، ما لم يكن التأخير بنية الجمع ، وما لم يكن في حالة النوم أو النسيان ، فإذا كانت هذه الصلوات فاتت عن نوم أو نسيان ، فيجب صلاتها عند الذكر أو الاستيقاظ باتفاق العلماء.
أما إذا كانت هذه الصلوات فاتت في غير نوم ولا نسيان ، فقد اختلف العلماء في وجوب قضائها عليه، فمذهب الفقهاء الأربعة أنه يجب قضاؤها. وذهب طائفة من المحققين إلى عدم وجوبها، ولكن تجب التوبة من ذلك ، والإكثار من الاستغفار والنوافل.
لكن الفقهاء جميعا سواء منهم من أوجب القضاء، أو منعه متفقون على أن القضاء لا يسقط الإثم بالرغم من وجوبه عند من أوجبه، ولكن الذي يسقط الإثم هو التوبة.
وعليه فعلى من فاتته بعض الصلوات عمدا في غير نوم ولا نسيان أن يكثر من النوافل والاستغفار بدلا من القضاء، كما عليه أن يندم على ما فات، ويحرص على الانتظام في الصلاة.
تمام التوبة ودوامها:
جاء في كتاب التوبة للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
قال الإمام الغزالي:
قد ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزمًا وقصدًا، وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلا بينه وبين محبوبه، ولكل واحد من العلم والندم والعزم دوام وتمام، ولتمامها علامة، ولدوامها شرط، فلابد من بيانها.
أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة وسيأتي.
وأما الندم فهو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب، وعلامته طول الحسرة والحزن، وانسكاب الدمع، وطول البكاء والفكر، فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو ببعض أعزته، طال عليه مصيبته وبكاؤه، وأي عزيز أعز عليه من نفسه، وأي عقوبة أشد من النار؟ وأي شيء أدل على نزول العقوبة من المعاصي؟ وأي مخبر أصدق من الله ورسوله؟ ولو حدثه إنسان واحد يسمى طبيبًا: أن مرض ولده المريض لا يبرأ، وأنه سيموت منه، لطال في الحال حزنه، فليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله تعالى، والتعرض بها للنار: فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى، فعلامة صحة الندم: رقة القلب، وغزارة الدمع، وفي الأثر: ” جالسوا التوابين، فإنهم أرق أفئدة ” ومن علامته: أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلا من حلاوتها، فيستبدل بالميل كراهية، وبالرغبة نفرة.
وفي الإسرائيليات: أن الله سبحانه وتعالى قال لبعض أنبيائه، وقد سأله قبول توبة عبد، بعد أن اجتهد سنين في العبادة، ولم ير قبول توبته: فقال: وعزتي وجلالي لو شفع فيه أهل السماوات والأرض ما قبلت توبته، وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه.
وأما القصد الذي ينبعث منه، وهو إرادة التدارك فله تعلق بالحال، وهو يوجب ترك كل محظور هو ملابس له، وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال، وله تعلق بالماضي؛ وهو تدارك ما فرط منه، وبالمستقبل؛ وهو دوام الطاعة، ودوام ترك المعصية إلى الموت.
قضاء حقوق الله:
وأما المعاصي، فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه، وبصره، ولسانه، وبطنه، ويده، ورجله، وفرجه، وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته، ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه، حتى يطلع على جميعها صغائرها وكبائرها، ثم ينظر فيها، فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد، كنظر إلى غير محرم، وقعود في مسجد مع الجنابة، ومس مصحف بغير طهارة، واعتقاد بدعة، وشرب خمر، وسماع ملاه، وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها، وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر، ومن حيث المدة، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات، أخذًا من قوله ﷺ: ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) (رَواهُ التّرمذيُّ عن أبي ذر وصححه وقد تقدم)، بل من قوله تعالى: (إنَّ الحَسَنَاتِ يُذهبنَ السَّيِّئَات) (هود: 114).
فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر.
ويكفر القعود في المسجد جنبًا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة.
ويكفر مس المصحف محدثًا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه، وكذلك بأن يكتب مصحفًا ويجعله وقفًا.
ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه.
وعد جميع المعاصي غير ممكن، وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة، فإن المرض يعالج بضده.
فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمتضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن تمحي كل سيئة بحسنة من جنسها، لكن تضادها، فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة.
وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو، فالرجاء فيه أصدق، والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضًا مؤثرا في المحو، فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى.
ويدل على أن الشيء يكفر بضده: أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وأثر اتباع الدنيا في القلب: السرور بها والحنين إليها، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له، إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم.