العلم قيمة من القيم العليا، التي جاء بها الإسلام وأقام عليها حياة الإنسان المعنوية والمادية، الأخروية والدنيوية، وجعله طريق الإيمان وداعي العمل، وهو المرشح الأول للخلافة في الأرض، وبه فضل آدم أبو البشر على الملائكة، الذين تطلعوا إلى منصب الخلافة ! لأنهم أعبد لله من الذين توقعوا منهم أن يفسدوا في الأرض ويسفكوا الدماء، فقال تعالى رداً عليهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها . . . ) الآيات.
الإسلام هو دين العلم
والقرآن كتاب العلم , وأول ما نزل منه على الرسول الكريم :( إقرأ باسم ربك الذي خلق ) والقراءة هي باب العلم . والقرآن : ( كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون ) .
والقرآن يجعل العلم أساس التفاضل بين الناس : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
كما يجعل أهل العلم هم الشهداء لله تعالى بالتوحيد، مع الملائكة : (أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ) .
وأهل العلم كذلك هم المؤهلون لخشيه الله تعالى وتقواه ( إنما يحشى الله من عباده العلماء ) , فلا يخشى الله إلا من عرفه، وإنما يعرف الله بآثار قدرته ورحمته في خلقه، ولهذا جاءت هذه الجملة في سياق الحديث عن آيات الله تعالى في الكون قال تعالى : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .
نبذ الاتباع والتقليد الأعمى
القرآن أعظم كتاب ينشئ ( العقلية العلمية ) التي تنبذ الخرافة، وتتمرد على التقليد الأعمى، للأجداد والآباء أو للسادة والكبراء، أو للعوام والدهماء، وترفض الظنون والأهواء في مقام البحث عن الحقائق والعقائد اليقينية، ولا تقبل دعوى إلا ببرهان قاطع، من المشاهدة المؤكدة في الحسيات، ومن المنطق السليم في العقليات، ومن النقل الموثق في المرويات .
ويعتبر القرآن النظر فريضة، والتفكير عبادة، والبحث عن الحقيقة قربة، واستخدام أدوات المعرفة شكراً لنعم الله، وتعطيلها سبيلاً إلى جهنم .
اقرأ هذه الآيات في القرآن، وهى غيض من فيض قال تعالى : ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ) ؟.
وقال تعالى:( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ) .
وقال تعالى:(وما لهم به من علم، إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً).
وقال تعالى:(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى).
وقال تعالى:(ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
وقال تعالى:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
وقال تعالى:(ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً).
وقال تعالى:(قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون).
وقال تعالى:(ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).
وقال تعالى:(قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
وقال تعالى:(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء).
وقال تعالى:(قل انظروا ماذا في السموات والأرض).
وقال تعالى:(قل إنما أعظمكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا).
وينوه القرآن في كثير من آياته بـ( أولي الألباب) ، و (أولي النهى) ، (وأولي الأبصار). والمراد بالبصر هنا: العقلي لا الحسي.
ويبين في كتابه المسطور (القرآن)، وكتابه المنظور (الكون) آيات (لقوم يتفكرون)، و(لقوم يعقلون)، و(لقوم يعلمون). وكم فيه من فواصل تنبه العقول الغافلة مثل: (أفلا تعقلون)؟ ، (أفلا تتفكرون)؟ .
ما هي أهمية العلم والعمل
علماء الإسلام متفقون على أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وأن منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية.
ففرض العين ما لا بد للمسلم منه في فهم دينه عقيدة وعبادة وسلوكاً، وفي عمل دنياه، حتى يكفي نفسه، وأسرته، ويهم في كفاية أمته.
وفرض الكفاية كل ما به قوام الدين والدنيا للجماعة المسلمة، من علوم الدين وعلوم الدنيا . ولهذا قرر علماء المسلمين أن تعلم الطب والهندسة وغيرهما من فروع العلم، وكذلك تعلم الصناعات التي لا تقوم حياة الناس إلا بها، فرض كفاية على الأمة، فإذا وجد فيها عدد كاف من العلماء والخبراء، والفنيين في كل مجال، بحيث تسد به الثغرات، وتلبي الحاجات، فقد أدت الأمة واجبها، وسقط الإثم والحرج عنها، وإذا قصرت الأمة في جانب من هذه الجوانب الدنيوية، وغدت عالة على غيرها كلياً أو جزئياً، فالأمة كلها آثمة، وبخاصة أولو الأمر فيها.
وعلى ضوء هذه المعاني قامت حضارة إسلامية رفيعة البنيان، متينة الأركان، جامعة بين العلم والإيمان. ولم يعرف في هذه الحضارة ما عرف في أمم أخرى من الصراع بين العلم والدين، أو بين الحكمة والشريعة، أو بين العقل والنقل. بل كان كثير من علماء الشرع أطباء ورياضيين وكيمائيين وفلكيين وغيرهم، ( مثل : ابن رشد والفخر الرازي والخوارزمي وابن النفيس وابن خلدون وغيرهم ) .
وقد بين الإمام محمد عبده أن أصول الإسلام تتفق كل الاتفاق مع العلم والمدنية، وأقام على ذلك البراهين الناصعة من نصوص الدين ومن تاريخ المسلمين، وذلك في كتابه القيم ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) .
أهمية العمل بالعلم
من المقتضيات الحتمية للعلم العمل الذي هو ثمرة العلم، ولهذا قيل في تراثنا : علم بلا عمل، كشجر بلا ثمر، أو سحاب بلا مطر. وهو أيضا ثمرة الإيمان الحق، إذ لا يتصور إيمان بلا عمل . ومهما يختلف علماء الكلام في اعتبار العمل جزءاً من حقيقة الإيمان، أو شرطاً له، أو أثراً له، فما لا ريب فيه أن الإيمان الصادق لا بد أن يثمر عملاً . ولهذا قرن القرآن بين الإيمان والعمل في عشرات من آياته، ولهذا قال السلف : الإيمان ما وقر في القلب، وصدقه العمل.
والعمل المطلوب هو : بذل الجهد الواعي لتحقيق مقاصد الشارع من الإنسان فوق هذه الأرض . وهذه المقاصد – كما أشار إليها القرآن – تتحدد في ثلاث ذكرها الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه ( الذريعة إلى مكارم الشريعة ) وهي
-العبادة، كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)
-الخلافة، كما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة)..يعني آدم وذريته.
-العمارة، كما قال تعالى : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) .
وهذه الثلاثة متداخلة ومتلازمة، فالعمارة – عند أدائها بقصد ونية – جزء من العبادة، وقيام بحق الخلافة. والعبادة بمعناها الواسع تشمل الخلافة والعمارة، ولا خلافة بغير عبادة وعمارة . والعمل المنشود في الإسلام هو ( عمل الصالحات )، والصالحات : تعبير قرآني جامع، يشمل كل ما يصلح به الدين والدنيا، ويصلح به الفرد والمجتمع. فهو يضم العبادات والعاملات، أو عمل المعاش والمعاد، كما يعبر علماؤنا رحمهم الله . ولقد بين القرآن أن الله تعالى خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وجعل ما على الأرض زينة لها، لهدف واضح حدده بقوله سبحانه : (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً )، وقوله: (لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ) .
ومعنى هذا : أن الخالق جل شأنه لا يريد من الناس أي عمل، ولا مجرد العمل الحسن، بل يريد منهم ( العمل الأحسن) . فالسباق بينهم ليس بين العمل السيئ والحسن، بل بين العمل الحسن والأحسن . ولا غرو أن وجدنا من العبارات القرآنية المأنوسة عبارة : ( التي هي أحسن)، فالمسلم يجادل ( بالتي هي أحسن )، وبدفع ( بالتي هي أحسن)، ويستثمر مال اليتيم ( بالتي هي أحسن )، ويتبع أحسن ما أنزل إليه من ربه : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) . فهو يرنو دائماً إلى ما هو أحسن، وليس إلى مجرد الحسن . والعمل الاقتصادي بكل، فروعه وأنواعه من أفضل القربات إلى الله، إذا صحت فيه النية، وأدى بإتقان، والتزمت فيه حدود الله. وخصوصاً العمل الإنتاجي من زراعة وصناعة وحديد وتعدين .
وقد توارث العرب من قديم احتقار العمل اليدوي والحرفي، وكان أحدهم يؤثر أن يذهب إلى الأمير أو شيخ القبيلة، يسأله المعونة، على أن يبذل جهداً يكفل له عيشاً يلائمه، فبين لهم الرسول الكريم أن أي عمل لكسب العيش وإن قل دخله، وكثر جهده – خير وأكرم من سؤال الناس، أعطوه أو منعوه. يقول عليه الصلاة والسلام : ( لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهر، فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه ) .
وفي الحث على الاحتراف يقول : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) .
وفي الحث على الزرع والغرس يقول : ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلاكان له به صدقة ) .
ومن أروع التوجيهات النبوية في بيان قيمة العمل : الحديث الذي يقول :(إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم ( أي الساعة ) حتى يغرسها فليغرسها ) . والفسيلة : النخلة الصغيرة، أي ما نسميه ( الشتلة ) .
ولماذا يغرسها والساعة قائمة، وهو لن ينتفع بها، ولا أحد من بعده ؟!
إنه دليل عملي أن العمل مطلوب لذاته، وأن على المسلم أن يظل عاملاً منتجاً، حتى تنفد آخر نقطة زيت في سراج الحياة ! إن العمل عبادة وقربة، أكل الناس من ثمره أو لم يأكلوا.
ولو وعى المسلمون هذه التعليمات لفتح الله عليهم بركات من السماء، والأرض، وأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وكانت مجتمعاتهم في طليعة مجتمعات العام إنتاجاً وثراءً، ولم يعيشوا كلاً على غيرهم من الأمم، حتى إنهم لا يكفون أنفسهم من القوت اليومي الذي به عيشهم وحياتهم، وبلادهم بلاد زراعية، ولا من السلاح الذي يحتاجون إليه في حماية حرماتهم وأرضهم وعرضهم، فلو كف الآخرون أيديهم منهم لهلكوا مادياً من الجوع، وهلكوا معنوياً من الذل.