يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
إن قصص القرآن لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة هود بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء مع أقوامهم : [ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ] ( يوسف : 111 ) ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب ، ولا تستقصى ؛ فيذكر منها الطمّ والرمّ (أي الاستقصاء) ، ويؤتى فيها بالذرة، وأذن الجرة كما في بعض الكتب التي تسميها الملل الأخرى مقدَّسة .
وللعبرة وجوه كثيرة ، وفي تلك القصص فوائد عظيمة ، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية ، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله : [ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ] ( الحجر : 13 ) , وقوله : [ سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ ] ( غافر : 85 ) يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه والغرور بما أوتوا ونحو ذلك .
فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه ، ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم.
والآية الثانية جاءت في سياق مُحَاجَّة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء ، وبعد الأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القويّة ذات القوة والآثار في الأرض ، وكيف هلكوا بعدما دعوا إلى الحق والتهذيب ، فلم يستجيبوا لما صرفهم من الغرور , وبما كانوا فيه ، ولم ينفعهم إيمانهم عندما نزل بهم بأس الله وحَلَّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى .
وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخًا أن التاريخ شيء باطل ضار ينزه القرآن عنه ، كلا , إن قصصه شذور من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي من أحوال الحيوان والنبات والجماد ، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك – يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته ، لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة ، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا ، ولذلك نقول : لو فرضنا أن المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى ، أو يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل ؛ لِمَا كان ذلك طعنًا فيه ؛ لأن هذه المسائل لم تقصد بذاتها ، بل المراد منها توجيه النفوس لطريق الاستفادة بما أشرنا إليه فتنبه .