ما عرفت البشرية دينا حفظ للإنسان حريته وكرامته مثل الإسلام، فهو دين جاء ليحقق للفرد اتزانه في شتى الميادين، وما ترك جانبا من جوانب الحياة إلا نظمه بأسلوب يكفل للإنسان حريته وسعادته، قال تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا” فالوسطية هي السمة التي يمتاز بها لإسلام.

ولقد اعتنى الإسلام بالفرد عناية فائقة ليرتقي به روحيا وجسديا وعقليا، فلم يهتم بجانب من الجوانب في حياة الفرد وأغفل جانبا آخر بل كفل للإنسان ما يحقق له السعادة ويلبي احتياجاته باعتباره مزيجا مختلطا من العقل والمادة والروح، فليس هناك تشريع يصطدم مع أي جانب من هذه الجوانب، فقد اهتم الإسلام بالجسم فقال صلى الله عليه وسلم “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” واهتم بالعقل فحث المسلم على التدبر والتفكر فقال سبحانه “قل سيروا في الأرض فانظروا” وقال “قل سيروا في الأرض ثم انظروا” “أفلا تعقلون” “أفلا تتفكرون” ، وأعطى الإسلام للفرد الحرية الكاملة ليأخذ من متع الحياة كيف شاء، ويبدع كيف شاء لا لمجرد الحصول على المتعة في ذاتها ولكن ليعيش هادئ النفس مطمئن البال يحقق معنى عبوديته لله رب العالمين.
يقول فضيلة الدكتور محمد البهي –رحمه الله- عميد كلية أصول الدين الأسبق:ـطريق الإسلام في توجيه الإنسان هو طريق التوازن بين الجسم والعقل فلا هو يُقِرُّ الرهبانيّة والامتناع عن الزواج كسبيل لمَنع الزَّلل والخَطأ.. ولا هو يُقرُّ أيضًا الصيام طويل الأجل كما كانت تدعو بعض الاتجاهات الدينيّة الشرقية القديمة.. لا يُقِرُّ هذا وذاك؛ لأنّه يَحرص على سلامة البدن مِن جهة، واستمرار النوع الإنسانيّ مِن جهة أخرى.

وكذلك لا يُقِرُّ الإفراط في المُتعة المادية، محافَظة منه على أن تكون للعقل فعالية: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ). (الأعراف: 31) فهو يطلب الاستمتاع بمُتع الحياة المادِّيّة ولكنه ينهى عن الإسراف في الاستمتاع بها حتى لا يُضَارَّ العقل في وظيفته عن طريق الضررِ الذي يُصيب البدن.

وعناية الإسلام بالبدن ـ إذن ـ هي في حِلِّ الزواج والمعاشَرة الجنسية، وفي حِلّ الطعام بما لم يَنْهَ عنه الله، والله سبحانه لم ينْهَ إلا عن الميتة والدَّم المسفوح ولحم الخنزير: (قُلْ لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) (الأنعام: 145).

وعناية الإسلام بالعَقل كما تكون بطلب الاعتدال في الاستمتاع بمتع الحياة المادية تكون بالحرِّيّة التي يُتيحها للإنسان في مُمارسة العقل فالإسلام لا يُكره الإنسان على الإيمان بالله أو البقاء على الكفر وإنَّما يضع أمامه الحقائق غير مغلَّفة.
ووظيفة الرسول هي فقط الكشف عن الحق وإبلاغه للناس: (وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).

والحُرِّيّة التي يُتيحها الإسلام للإنسان في ممارَسة العقل كما تتحقّق في عدم إكراهه على الإيمان تتحقق أيضًا بطلبه إبعاد مؤثِّرات البيئة من عادات وتقاليد عن التفكير حتى يتوفّر الجَوُّ الصالح للفكر الحُرِّ والإرادة الإنسانية الحُرّة؛ ولذا يَعيب الإسلام على الذين ينحرفون في تفكيرهم ويكفرون بالله بسبب التقاليد والعادات المسيطرة على بيئتهم: (وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمونَ شَيْئًا ولاَ يَهْتَدُونَ). (المائدة: 104).

والعبادة من صلاة، وصوم، وزكاة: تُوفر الصلاحية التي يَطلبها البدن ليكون بعيدًا عن الانحراف، والتي يَطلبها العقل ليكون صاحب تفكير سليم.