قال ابن عابدين نقلاً عن كتاب الخلاصة:[ القرض بالشرط حرام، والشرط لغو ] حاشية ابن عابدين.
فقد نهى النبي ﷺ عن سلف وبيع، كما ثبت في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال:( لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال العلامة الألباني: حسن. إرواء الغليل 5/146. وقال العلامة ابن القيم: [ وحرم الجمع بين السلف والبيع، لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى ] إغاثة اللهفان 1/363.
إذا تقرر هذا فالواجب رد مبلغ الدين كما هو بغض النظر عن ارتفاع سعر عملة الدين أو انخفاضها، لأن الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الديون تقضى بأمثالها ولا تقضى بقيمتها.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:( أتيت النبي ﷺ فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير ؟ فقال ﷺ: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء )، وفي رواية أخرى:( أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير ) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي،[ فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو الدراهم وقد يقبض الثمن في الحال وقد يبيع بيعاً آجلاً وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم وقد يجد مع من اشترى بدراهم ليس معه إلا دنانير أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين أم يوم الأداء؟
-مثلاً إذا باع بمئة دينار وكان سعر الصرف: الدينار بعشرة دراهم أي أن له ما قيمته ألف درهم وتغير سعر الصرف فأصبح الدينار مثلاً بأحد عشر درهماً أفيأخذ الألف أم ألفاً ومئة ؟
-وإذا أصبح بتسعة دراهم فقط أفيأخذ تسعمئة درهم يمكن صرفها بمئة دينار يوم الأداء أم يأخذ ألف درهم قيمة مئة الدينار يوم البيع؟
بين الرسول ﷺ أن العبرة بسعر الصرف يوم الأداء، وابن عمر الذي عرف الحكم من الرسول الكريم ﷺ، سأله بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عن كرَّيٍ لهما له عليهما دراهم وليس معهما إلا دنانير فقال ابن عمر : أعطوه بسعر السوق .
فهذا الحديث الشريف يعتبر أصلاً في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته حيث يؤدي عن تعذر المثل بما يقوم مقامه وهو سعر الصرف يوم الأداء، يوم الأداء لا يوم ثبوت الدين ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 جزء 3 ص1727-1728.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة واختار هذا القول كثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين، حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة الشخص بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها:
جاء في المدونة:[ كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا ] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي:[ ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل ] المهذب مع المجموع 12/185.
وقال الكاساني الحنفي: [ ولو لم تكسد – النقود – ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا ] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود:[…لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد ] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ لا يجب في القرض إلا رد المثل بلا زيادة ] مجموع الفتاوى 29/535. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [ والدراهم لا تقصد عينها فإعادة المقترض نظيرها كما يعيد المضارب نظيرها وهو رأس المال. ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال باتفاق العلماء، والمقترض يستحق مثل قرضه في صفته…] مجموع الفتاوى 29/473.
وقال العلامة الغزي الحنفي: [ أما إذا غلت قيمتها أو ازدادت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير.
وفي البزازية معزياً إلى المنتقى: [ غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولاً ليس عليه غيرها ) رسالة بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود ص 83 -84.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي:[ العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار ]مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3/2261.
وبناءً على ما سبق فإن قضاء الديون بأمثالها لا بقيمتها هو الأصل، ويعتبر قضاء الديون بقيمتها من الربا المحرم شرعاً [ إن الحكم على المدين المماطل بتعويض دائنه بفرق هبوط القوة الشرائية للنقد عقب مطله غير سائغ شرعاً إذ هو وقوع في حمى الربا المحرم تحت ستار تعويض الدائن عن انخفاض القوة الشرائية للنقود، بل إن الدائن ليحصل في كثير من الأحيان باسم ذلك التعويض على ما يزيد قدراً ويفوق جوراً الفوائد التأخيرية في البنوك الربوية ] قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد ص500.
ويستثنى من الأصل المذكور حالة واحدة فقط وهي: إذا كان تغير قيمة العملة كبيراً وهنالك خلاف بين الفقهاء في مقدار التغير الكبير فمنهم من يقول الثلث ومنهم من يقول النصف.
ونود أن ننبه على بعض القضايا المرتبطة بمسألة تغير قيمة العملة وهي:
أولاً: للمقـترض أن يحسن لمن أقرضه فيعوضه عن هبوط قيمة العملة، كما أحسن المقرض له عندما أقرضه، وهذا من باب الإحسان، ولا يجوز أن يكون ذلك مشروطاً.
-فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:(أتيت النبي ﷺ وهو في المسجد ضحىً فقال:صل ركعتين، وكان لي عليه دين فقضاني وزادني ) رواه البخاري.
-وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر رضي الله عنه:(فلما قدمنا المدينة، قال الرسول ﷺ يا بلال:اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً).
-وعن أبي رافع رضي الله عنه قال:(استلف النبي ﷺ بكراً – الفتي من الإبل – فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت:إني لم أجـد مـن الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً – جـملاً كبيراً له من العمر ست سنوات – فقال:أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم.
-وعن مجاهد قال:(استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منها فقال الرجل:يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر:قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ.
وقال الإمام مالك:(لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما …).
وقال الإمام القرطبي:[وأجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم ﷺ أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما يستلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر- الفتي من الإبل -:(إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى ﷺ على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة] تفسير القرطبي 3/241.
ثانياً:يدخل فيما سبق قيام أصحاب العمل بتثبيت سعر الدينار أو الدولار عند مقدار معين، وهذا أيضاً من باب التفضل والإحسان، ولا يجوز أن يكون بشرط سابق.
ثالثاً:لا مانع شرعاً من أن يكون هنالك اتفاقٌ بين صاحب العمل والعامل على تعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة.
كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 2% أو 3% أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية.
وسبق لمجمع الفقه الإسلامي أن ناقش هذه القضية وأصدر القرار التالي:[ يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور على أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3 / 787.
وخلاصة الأمر أن الأصل في الديون أنها تقضى بأمثالها لا بقيمتها، وأنه لا يجوز ربط سعر عملة بعملة أخرى عند الاقتراض أو البيع أو عند ترتيب أي حق مالي، ويجوز للمقترض أن يعوض المقرض عن هبوط قيمة العملة بدون شرط سابق، وأن هذا من باب المعروف والإحسان.