قصة قتل أسامة لرجل :
يقول فضيلة الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر -رحمه الله- في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام :
يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) [سورة النساء:4].
السبب في نزول هذه الآية ما أخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : كان رجل في غنيمة له، فلَحِقَه المسلمون فقال : السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله هذه الآية.
وفي غير البخاري أن الرسول -ﷺ- حمل دِيَتَه إلى أهله وردَّ عليه غُنَيْماته.
واختُلف في تعْيِين القاتل والمقتول في هذه الحادثة، فالذي عليه الأكثرون أن القاتل هو محلِّم بن جثامة، والمقتول هو عامر بن الأضبط، فدعا الرسولَ على محلِّم فمات بعد قليل.
وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين أن الرسول -ﷺ-سأل القاتل : “فهلا شقَقْت عن بطنه فعلمت ما في قلبه”؟ فقال : يا رسول الله لو شققتُ بطنه أكنت أعلم ما في قلبه؟ قال : “لا” فلا أنت قَبِلْتَ ما تكلَّم به، ولا أنْت تعلم ما في قلبه” فمات القاتل بعد قليل.
وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مُرة من أهل فَدَك، قاله ابن القاسم عن مالك.
وقيل: كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله.
لا يجوز قتل من شهد أن لا إله إلا الله :
جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعَثَنَا رسول الله -ﷺ- في سَرِيَّة، فصبحْنا الحرقَات من جهينة، فأدركت رجلاً فقال : لا إله إلا الله، فطعنْته، فوقَعَ في نفْسي مِنْ ذلك، فذكرْتُه للنبي -ﷺ – فقال : “أَقَالَ لا إله إلا الله وقتلْتَه”؟ قال : قلت يا رسول الله! إنَّما قالها خوفًا من السلاح، فقال : “أَفَلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه حتى تعلم أقالها أم لا”؟ وإذا كان هناك تعدُّد في الحادثة فقد حَكَم الرَّسول -ﷺ- في بعضها بالدِّية كما تقدَّم.
وفي حادِثِ أسامَة يقول القرطبي في تفسيره (جـ 5 صـ 324 ) : لم يحْكُم عليه -ﷺ- بقِصَاص ولا دية، ويقول : ورُوي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله -ﷺ- استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال : “أعتق رقبة”، ولم يحكم بقصاص ولا دية. فقال علماؤنا : أما سقوط القصاص فواضح، إذ لم يكن القتل عدوانًا.
أسباب سقوط الدية في حادثة أسامة :
الأول : لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس محترمة غلطًا، كالخاتن والطبيب أي ما دام مأذونا له فلا ضمان في خطئه، كالذي يقوم بعملية الختان وكالطبيب لا يضمنان ما أخطأ فيه.
الثاني : لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين تكون له ديته، لقوله تعالى (فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [سورة النساء:92].
والمعنى عند ابن عباس وغيره، فإن كان هذا المقتول رجلاً مؤمنًا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة (عَدُوٍّ لَكُمْ) فلا دية له، وإنما كفارته تحرير الرقبة، وهو المشهور من قول مالك، وبه قال أبو حنيفة.
وسقطت الدية لوجهين :
أحدهما : أن أولياء القتيل كفار، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها.
والثاني : أن حُرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية، لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (سورة الأنفال : 72).
وقالت طائفة: بل الوجْه في سقوط الدِّيَة أن الأولياء كفَّار فقط، فسواء كان القتيل خطا بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يُهاجر أو هاجر ثم رجع إلى قومه ـ كفارته التحرير ولا دية فيه، إذ لا يصح دفعها إلى الكفار، ولو وجبت الدِّية لوجبت لبيت المال على بيت المال، فلا تَجب الدِّية في هذا الموضع وإن جرى القتل في بلاد الإسلام، وهذا قول الشافعي، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور، وعلى القول الأول وإن قُتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرْب ففيه الدِّية لبيت المال والكفارة.
الثالث : من أوجه سقوط الدِّيَة عن أسامة أنه اعْترف بالقتل ولم تقم بذلك بيِّنة، ولا تعقل العاقلة اعترافًا ـ أي الدِّيَة لا تجب على أهل القاتل بالاعتراف بل لا بد من البينة ـ ولعلَّ أُسَامة لم يكن له مال تكون فيه الدية.
هذا ما ذكره القرطبي في توجيه عدم القصاص من أسامة وعدم وجوب الدية عليه.