الرشوةهي ما يقدَّم من مال إلى من بأيديهم مصالحُ الناس، بُغيةَ وصول الإنسان إلى حقه أو إبطال حق غيره أو الحصول على ما لا حق له فيه. وهي سلوك سيئ لعَن الله فاعلَه، وقد اعتبرها الشارع أكلاً لأموال الناس بالباطل.
يقول أ. د عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر:
إن من نافلة القول أن يقال بتفشي ظاهرة الرشوة في المجتمعات تحت مسميات عدة؛ كالعمولة، والأتعاب، والإكراميات، والبقشيش، ونحو ذلك..والرشوة: عبارة عما يقدَّم من مال أو غيره إلى من بأيديهم مصالحُ الناس، بُغيةَ وصول الإنسان إلى حقه أو إبطال حق غيره أو الحصول على ما لا حق له فيه.
-والرشوة سلوك سيئ لعَن الله فاعلَه، إذ رُوي عن النبي ـ ﷺ ـ أنه قال: “لعن الله الراشيَ والمرتشيَ والرائشَ”، فلَعَن في الرشوة ثلاثةً: مقدِّمَها، وآخذَها، والواسطةَ بينهما، إن كان بين الراشي والمرتشي وسيط يقوم بنقلها من الأول إلى الثاني، وهذا اللعن لا يكون إلا على أمر حرمه الشارع.
-وقد اعتبرها الشارع أكلاً لأموال الناس بالباطل، قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالَكم بينَكم بالباطلِ وتُدلُوا بها إلى الحكامِ لتأكلوا فريقًا من أموالِ الناسِ بالإثمِ وأنتم تعلمون) ، كما عدَّها سُحتًا يأكله المرتشي، فقال سبحانه في شأن اليهود الذين من دَيدَنِهم أكلُ السُّحت واستحلالُ الرشوة (سَمّاعون للكذب أَكّالون للسُّحت)، واعتبر رسول الله ـ ﷺ ـ الهدايا التي يأخذها العاملون في الدولة غُلولاً، أي خيانة للأمانة، إذ رُوي عنه ـ ﷺ ـ أنه قال: “هدايا العمال غُلول”، ولهذا أنكر على قبول بعض العاملين على جباية أموال الزكاة من المصَّدِّقين ما أُهديَ إليه بصفته جابيًا لهذه الأموال، إذ رُوي عنه ـ ﷺ ـ أنه قال: “ما بالُ الرجلِ نولِّيه على صدقات الناس، فيأتينا ويقول: هذا لكم، وهذا أُهديَ لي، أفلاَ قعَد في بيت أبيه وأمه فنظَر أيُهدَى إليه أم لا”.
وخيانة الأمانة منافية للإيمان، فقد رُوي عن أنس أن رسول الله ـ ﷺ ـ قال: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”، وليس بخافٍ على أحد أثرَ الرشوة في ضياع الحقوق على أصحابها، وإهدار المصالح العامة والخاصة، وشيوع الفساد، وانتشار الظلم، وإخلال موازين العدالة، واستباحة ما حرَّم الله سبحانه، وهذا هو الضلال المبين الذي تعاني من آثاره السيئةِ المجتمعاتُ والأفرادُ.
-فكم من حق ضلَّ طريقَ صاحبه بسبب تحويل هذا الحق إلى غيره بالرشوة!
-وكم من ظُلم حاق بإنسان لم يبذُل هذه الرشوةَ إلى من ظلَمه!
-وكم من عنَت واضطهاد وقهر لَحِقَ بامرئٍ امتنَع من بذل هذه الرشوة إلى من ألحَقَ به ذلك! وكم من حقائقَ زُيِّفَت وباطلٍ أُلبِسَ ثوبَ الحق بسبب الرشوة!
وإذا كان ضياع الوازع الدينيّ والرغبة في الثراء السريع من أسباب تفشي هذه الظاهر، فإن ما يُتوصَّل به إلى القضاء عليها هو نشرُ الوعي الدينيّ وتذكيرُ من لديهم الاستعدادُ النفسيّ لاقتراف هذا المنكر بالوعيد الشديد الذي يناله من أقدَمَ على تقديم الرشوة أو سهَّل الحصولَ عليها أو أخْذَها، بالإضافة إلى الطرد من رحمة الله تعالى، يضاف إلى هذا التذكير غَرْسُ القيم والأخلاق الدينية في نفوسهم، وحثُّهم على مراقبة الله ـ تعالى ـ في كل ما يصدُر عنهم، ووزنُ أعمالهم بميزان الشرع، وتذكيرُهم بسير السلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ الذين رفضوا أخذ هذه الرشاوي أو تقديمها إلى أحد، والذين منهم عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ الذي حاول اليهود أن يقدموا إليه رشوة عندما بعثه رسول الله ـ ﷺ ـ إلى خيبر ليقسم غلة الأرض بين أهلها وبين المسلمين، وَفقًا للصلح الذي تم بينهم، حيث رفض عبد الله بن رواحة ما قدموه له من مال وحُلِيٍّ وهدايا قائلاً لهم: إن هذا سحت، والمؤمنون بالله ورسوله لا يأكلون السحت، ولا يَحملني حبي لمحمد وبُغضي لكم على أن أظلم أو أجور أو أميل مع قومي دونكم. فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض.
ومنهم عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي رفض وهو خليفة المسلمين أن يعاونه أحد من الرعية ولو بسَقْي إبلِه أو إبلِ أحد أبنائه، تورعًا من تقديم منفعة إليه على سبيل الرشوة، ومنعًا من أن يُتَّهم باستغلال نفوذه، أو يُتَّهم أحدُ أبنائه باستغلال نفوذ أبيه في الحصول على ما ليس من حقه، وذلك ما رُوي عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: اشتريت إبلاً في الحِمَى، فلما سَمِنَت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سِمَانًا، فقال: لمن هذه؟ قيل: لعبد الله بن عمر. فأرسل إليه فحضر، فقال له: ما هذه الإبل؟ قال: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحِمَى، أبتغي ما يبتغي المسلمون. فقال عمر: حين عرَف الناس أنها إبلُ ابن أمير المؤمنين، لا بد أن قالوا: ارعُوا إبلَ أمير المؤمنين، اسقُوا إبلَ أمير المؤمنين. يا عبد الله اغْدُ على رأس مالِكَ واجعل باقيَه في بيت مال المسلمين، وبذلك كله تُجتَثّ جذور الرشوة من المجتمعات وتَنْمحي آثارها السيئة التي اصطَلَى بنارها الكثيرون.