اتفق الفقهاء على أن المريض بالسلس ـ سواء كان سلس بول أو غائط أو مني أو مذي أو غير ذلك مما يخرج من السبيلين ـ عليه الوضوء لكل صلاة ثم يضع شيئا على محل النجاسة ويصلي بهذا الوضوء طوال وقت الصلاة التي توضأ بعد دخول وقتها ، ولا ينقض إلا بدخول الفرض الآخر، وهذا إن كانت النجاسة تنزل باستمرار، أما إن توقفت النجاسة بعد الوضوء فهو على وضوئه حتى يحدث ناقض للوضوء.
وقد اختلف الفقهاء حول جواز إمامة من به سلس لغيره من الأصحاء، فيرى بعضهم أن صلاته في حق نفسه صحيحة لكن لا تصح إمامته، وقال البعض تصح إمامته لغيره كما تصح لنفسه، وما نرجحه أنه لا يؤم الناس إلا في حالة الحاجة الشديدة كأن يكون إماما راتبا ولا يجد من يقوم مقامه أو يصلي بمجموعة من النساء ولا يوجد رجل غيره وغيرها .
أقوال العلماء في طهارة ووضوء المصاب بسلس البول وغيره:
يقول الدكتور محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بجامعة الأزهر :
شرع الله تعالى مَنُوط بوُسع الإنسان، قال تعالى: (لا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها) (البقرة: 286) وقال جل شأنه: (وما جعَل عليكم في الدين من حَرَج) (الحج: 78) فليس هناك فريضة شرعية إلا ويُراعَى فيها أصحابُ الأعذار، فهذا الإنسان الذي يخرج منه ناقض للوضوء باستمرار له وضع شرعيّ عليه أن يتبعه لإتمام طهارته التي يترتب عليها قبول صلاته.
وهذا الوضع الخاص: هو أن يبدأ استعداده للصلاة بعد دخول وقتها وليس قبله، وأن يستنجيَ ويتحفظ على موضع خروج الناقض للوضوء بوضع قطن وعصابة أو ما شاكلها، ثم يوالي الإنسان بين استنجائه ووضوئه وصلاته، ولا يصلي بهذا الوضوء إلا فرضًا واحدًا وما شاء من النوافل، وعليه أن يجدد وضوءه وطهارته لكل صلاة مفروضة، ويُعفي عما يُصيب الإنسانَ المريض في جسده أو ثوبه من النجاسات التي يَعسَر إزالتها أو يشُقّ على الإنسان ملاحقتها.
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في مثل هذه الحالات أن فاطمة بنت حُبيش جاءت إلى النبيّ ـ ﷺ ـ فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهُرُ (أي ينزل عليها الدم باستمرار) أفأَدَعُ الصلاة؟ فقال: “لا إنما ذلك عِرْق وليس بحيضة، فإذا أقبَلَت الحَيضة فدَعي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدم وصلي. على أن هذه المرأة التي ينزل عليها الدم باستمرار تَحسب مدة حيضها وعادتها الشهرية، فإذا انتهت اغتسلت الغسل الواجب واستأنفت حياتها العادية في العلاقة الزوجية والصلاة بالكيفية التي أسلفناها. وهكذا كل إنسان مريض بسَلَس من بول أو دم أو غير ذلك.
يقول الشيخ محمد صالح المنجد :-
1- من كان حدثه دائما مستمرا ، كصاحب سلس البول والريح ، يتوضأ لوقت كل صلاة ، ويصلي بوضوئه ما شاء من الفروض والنوافل ، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى.. . لكن إن علم أن البول ينقطع عنه في وقت يتسع لطهارته وصلاته لزمه تأخير الصلاة لذلك الوقت.
قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله تعالى-: (المصاب بسلس البول له حالان :
– الأولى : إذا كان مستمرّاً عنده بحيث لا يتوقف ، فكلما تجمَّع شيء بالمثانة نزل : فهذا يتوضأ إذا دخل الوقت ويتحفظ بشيء على فرجه ، ويصلِّي ولا يضرُّه ما خرج .
-الثانية : إذا كان يتوقف بعد بوله ولو بعد عشر دقائق أو ربع ساعة : فهذا ينتظر حتى يتوقف ثم يتوضأ ويصلِّي ، ولو فاتته صلاة الجماعة . ”
وقد اختلف العلماء في طهارة المستحاضة ونحوها هل تبطل بخروج الوقت أم بدخول الوقت الآخر، وثمرة ذلك تظهر فيمن توضأت لصلاة الصبح ، فهل لها أن تصلي بوضوئها هذا صلاة الضحى وصلاة العيدين أم لا؟
فمن قال : إن طهارتها تبطل بخروج الوقت ، منعها من ذلك ، لأنها بطلوع الشمس قد انتقضت طهارتها. ومن قال : إن طهارتها تبطل بدخول الوقت الآخر ، أجاز لها أن تصلي الضحى والعيدين بوضوء الصبح لأن طهارتها باقية إلى دخول وقت الظهر.
والقولان في مذهب الإمام أحمد وغيره . والأحوط أن تتوضأ للضحى والعيدين وضوءا جديدا ، وبهذا أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
2- غير أننا ننبه على أن هذا الحكم متعلق باستمرار الحدث ، وخروج الخارج ، لكن لو قُدر أن صاحب السلس توضأ ، ثم لم يخرج منه شيء حتى دخل وقت الصلاة الأخرى ، لم يلزمه الوضوء ، وهو على وضوئه الأول .
فقول الفقهاء: يتوضأ لوقت كل صلاة ، مقيد بما إذا خرج منه شيء. قال البهوتي في الروض المربع ( (والمستحاضة ونحوها ممن به سلس بول أو مدي أو ريح . . . تتوضأ لـ دخول وقت كل صلاة إن خرج شيء ،وتصلي ما دام الوقت- باقيا- فروضا ونوافل ، فإن لم يخرج شيء لم يجب الوضوء. انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ( يجب على المستحاضة أن تتوضأ لوقت كل صلاة إن خرج شيء ، فإن لم يخرج منها شيء بقيت على وضوئها الأول .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله : ( المريض المصاب بسلس البول ولم يبرأ بمعالجته عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ، ويغسل ما يصيب بدنه ، ويجعل للصلاة ثوبا طاهرا إن لم يشق عليه ذلك ، وإلا عفي.
أما عن سلس المذي يقول المستشار فيصل مولوي-رحمه الله تعالى- نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث :
إنّ خروج المذي لا شعوريّاً إذا كان ينزل بشكل مستمرّ فلا يستطيع أن يتملّكه يجعل المسلم في حكم المعذور. والمعذور يتوضّأ لوقت كلّ صلاة وبعدها يصلّي ما شاء من الصّلوات، حتى إذا أذّن المؤذّن لوقت آخر بطل وضوؤه فيتوضّأ من جديد وهكذا. ولو نزل منه المذي أو غيره خلال هذه المدّة فإنّه لا يضرّ، ويبقى وضوؤه صحيحاً وصلاته صحيحة حتى يدخل وقت الصلاة التالية. كما أنّه ليس له أن يؤمّ غيره في الصّلاة ولكن يجوز له أنّ يصلّي خلف الإمام. أمّا إذا لم يكن الإنسان معذوراً، أي أنّ المذي أو سواه لا يخرج منه بشكل مستمرّ، فهو عند ذلك ينقض الوضوء كلّما خرج فيجب تجديد الوضوء وتنظيف الثّياب ممّا علق بها من النّجاسة أو غيرها حتّى تصحّ الصّلاة.
إمامة من به سلس:
جاء في الموسوعة الفقهية ما نصه : اتفق الفقهاء على أنه إذا كان الإمام مريضًا بالسلس والمأموم كذلك فالصلاة جائزة، وأما إذا كان الإمام مريضًا بالسلس والمأموم سليمًا فقد اختلف الفقهاء في جواز إمامة المريض لصلاة غيره من الأصحاء على قولين :
القول الأول: وهو قول الحنفية والحنابلة ومقابل الأصح عند الشافعية عدم الجواز لأن أصحاب الأعذار يصلون مع الحدث حقيقة لكن جعل الحدث الموجود في حقهم كالمعدوم للحاجة إلى الأداء فلا يتعداهم ؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها، ولأن الصحيح أقوى حالاً من المعذور، ولا يجوز بناء القوي على الضعيف.
والقول الثاني: وهو قول المالكية في المشهور والشافعية في الأصح الجواز لصحة صلاتهم من غير إعادة، ولأنه إذا عفي عن الأعذار في حق صاحبها عفي عنها في حق غيره ،ولأن عمر رضي الله عنه كان إمامًا وأخبر أنه يجد ذلك أي سلس المذي ولا ينصرف إلا أن المالكية صرحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحاء .
ـ سلس المني قال العلماء: إذا خرج المني من غير شهوة، كأن نزل لمرض أو برد فلا يجب عليه الغسل، وذلك لحديث رواه أحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال له: “فإذا فضخت الماء فاغتسل” أي خرج منك المني بشدة.
ويروى عن مجاهد أنه كان في حلقة بالمسجد ومعه أصحاب ابن عباس: طاوس وعكرمة وسعيد بن جبير، وكان ابن عباس قائمًا يصلي، فسألهم رجل وقال: إني كلما بُلتُ تبعه الماء الدافق، وهو المني، فقالوا: عليك الغسل، ولكن الرجل لم يقتنع، ولما انتهى ابن عباس من الصلاة استدعى الرجل، وعجب من إفتائهم إياه بما لم يرد في الكتاب والسنة، بل بالرأي، وذكر قول النبي ﷺ ” فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد” ثم سأل الرجل: أرأيت إذا كان ذلك منك، أتجد شهوة في قبلك؟ قال: لا، قال: فهل تجد خدرًا في جسدك؟ قال: لا، قال: إنما هذه أبردة يجزيك منها الوضوء، يعني إصابة بالبرد لا يجب منها الغسل. نقل هذا الحكم الشوكاني في نيل الأوطار “ج1 ص240”
وحكم سلس المني وسلس البول والريح مقيس على حكم الاستحاضة التي تزيد على أكثر مدة الحيض (عشرة أيام عند الحنفية وخمسة عشر يومًا عند غيره) وذلك لورود النص فيها، فالحنفية والحنابلة يكتفون بوضوء واحد لوقت كل صلاة، والشافعية يوجبون الوضوء لكل فريضة.
ويقول فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق ـ رحمه الله ـ :
من شروط صحة الصلاة في الإسلام طهارة الثوب والجسد من النجاسات نجد هذا واضحا وصريحا في قول الله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْوَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) المائدة 6 ، نجد هذا كذلك في قوله { وثيابك فطهر } المدثر 4 ، ولقد أبانت السنة الشريفة أهمية وضرورة التطهر من البول والتنزه عنه في الثوب والجسد وحث على هذا رسول الله ﷺ فيما رواه عنه أنس ( نيل الأوطار ج1 - ص 93 ) ( تنزهوا من البول )
وفيما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما ( نيل الأوطار ج و1 - ص 93 ) من أن النبي ﷺ مر بقبرين فقال (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشى بالنميمة) وفي رواية لمسلم وأبى داود ( يستنزه) .
وإعمالا لهذه النصوص وغيرها من القرآن والسنة اتفق فقهاء المسلمين على أن الوضوء ينتقض بالخارج من القبل أو الدبر مطلقا في حال الصحة فإن كان هذا الخارج حال المرض كسلس البول ، بمعنى استرساله واستمرار نزوله وعدم استمساكه كان صاحب هذه الحال معذورا في عرف الفقهاء وقد أوجبوا على صاحب مثل هذا العذر بعد التبول والاستنجاء عصب مخرج البول بما يمنع نزوله بقدر المستطاع،
واختلفوا في حد السلس الذي يصير به صاحبه معذورا .
ففي الفقه المالكي أن يلازم عليه أوقات الصلاة أو نصفها وأن يكون غير منضبط وألا يقدر على رفعه بالتداوي مثلا وفي الفقه الحنفي أن من به سلس بول ولا يمكنه إمساكه يقال له معذور ويثبت عذره ابتداء إذا استمر نزول البول وقتا كاملا لصلاة مفروضة وفي فقه الإمام أحمد أنه يصير معذورا إذا دام نزول البول دون انقطاع وقتا يتسع للطهارة والصلاة .
وحكم المعذور في فقه المذهب الحنفي وهو ما نميل للفتوى به في هذا الموضع - أن يتوضأ صاحب هذا العذر لوقت كل صلاة، ويصلى بوضوئه هذا ما شاء من الفرائض والنوافل، ومتى خرج الوقت الذي توضأ لفرضه انتقض وضوؤه، وعلى ذلك فلا يصلى فرض العصر في وقته بوضوء فرض الظهر في وقته .
لما كان ذلك فإذا كانت حالة أي شخص تجعله معذورا بمعنى أن البول يتقاطر منه بعد الاستنجاء على جسده وملابسه ويعجز وجب عليه أن يحاول قدر الاستطاعة الإقلال من نزول البول بعد الاستنجاء بربط مخرج البول وحشوه، ثم يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلى بوضوئه ما شاء من الفرائض والنوافل في ذات الوقت فإذا خرج الوقت بحلول وقت صلاة فريضة أخرى انتقض وضوؤه ووجب عليه الوضوء للوقت الجديد .
ولا يضره ما يصيب ثوبه أو جسده من تقاطر البول إن لم يمكن حبسه برباط أو غيره ولا يجب غسله، ما دام مريضا أو معذورا بتقاطر البول أو استمراره إذ الإسلام يسر لا عسر فيه .
قال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج 78 ، فاستقم على طاعة الله وتوضأ وصل الفرائض والنوافل واستعن بالله ولا تعجز . فقد قال سبحانه تعليما بعد الأخذ بالأسباب { وإذا مرضت فهو يشفين } الشعراء 80