حكم شرب الخمر :

بداية يجب التنبيه إلى عظم ذنب شرب الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، إلا أن يتوب.

ويقول: “إن حقاً على الله لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: “عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار” رواهما مسلم.

وقد سمى الله الخمر رجساً من عمل الشيطان، وأمر باجتنابها، فشربها كبيرة من كبائر الذنوب التي لا تكفرها إلا التوبة؟

طلاق السكران :

اختلف الفقهاء حول طلاق السكران فبعضهم يوقعه، والبعض الآخر يراه لغوا، وهذا بناء على رأيهم في التوسع أو التضييق في إيقاع الطلاق.

فملخص ما جاء في ندوة مجمع الفقه بالهند في دورته الثانية عشرة أن من سكر دون علم بالحرمة، أو كان تناول شيئا مسكرا للتداوي أو لحاجة ضرورية، أو كان مكرها، فإن الطلاق لا يقع ، فإن شربه باختياره ولم يغب عقله وقع الطلاق، فإن غاب عقله، ففيها خلاف، والأكثر على أنه لا يقع.

ويرى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن طلاق السكران لا يقع على أية حال.

الحالات التي يقع فيها طلاق السكران والحالات التي لا يقع فيها الطلاق :

صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي بالهند في هذه المسألة وهذا نصه :

1- إذا تناول شخص – وهو لا يعلم – شيئاً مسكراً حراماً وسكر وطلق امرأته في هذه الحال فلا يقع الطلاق في هذه الصورة.

2-إذا تناول شخص شيئاً مسكراً حراماً للتدواي بعد أن رأى الأطباء الحذاق المسلمون أنه لا سبيل إلى مداواة مرضه إلا بهذا المسكر، أو تناول شيئاً مسكراً في شدة الجوع والظمأ لصون حياته -وهو لا يجد شيئاً حلالاً- وسكر وطلق امرأته في حالة النشوة هذه فلا يقع الطلاق.

3- إذا أكره شخص على تناول الخمر أو شيء مسكر آخر إكراهاً جاز له تناوله فتناول وطلق امرأته في حالة السكر فلا يقع الطلاق.

4-إذا سكر شخص بتناول شيء حلال وطلق امرأته في السكر فلا يعتبر طلاقه شرعاً.

5-إذا تعمد شخص برضاه تناول خمر أو شيء مسكر حرام، وسكر، ولكنه في حالة السكر البدائية التي يحدث فيها نوع من النشوة، إلا أنه لا يفقد عقله ووعيه في تلك الحال ويفهم الكلام، فطلق امرأته في هذه الحال فيقع الطلاق.

6-وإذا سكر في الحال المذكورة سكراً شديداً فقد عقله ووعيه تماماً وتلفظ في هذه الحال بكلمات الطلاق، فهل يقع طلاقه أم لا يقع؟ ذهب المشاركون في الندوة إلى رأيين في هذا الصدد:

وذهبت أكثرية هؤلاء العلماء إلى عدم وقوع الطلاق في هذه الصورة.

طلاق السكران بين الموسعين والمضيقين :

يقول العلامة فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي  -حفظه الله-:

هناك اتجاهان في الفقه الإسلامي من قديم:

الأول:يميل إلى التوسع في إيقاع الطلاق، حتى وجد من يقول بإيقاع طلاق المعتوه، ومن يوقع طلاق المكره، والمخطيء والناسي والهازل، والغضبان أيا كان غضبه، وحتى قال بعضهم من طلق امرأته في نفسه طلقت عليه وإن لم يتلفظ بكلمة الطلاق، فلا عجب أن يوجد من يقول بوقوع طلاق السكران، مادام سكره باختياره.

الثاني:يميل إلى التضييق في إيقاع الطلاق، فلا يقع الطلاق إلا مع تمام الوعي به والقصد إليه مع شروط أخرى.

ومن أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين الإمام البخاري صاحب الصحيح فقد عقد بابًا في جامعه، ترجمه بقوله: باب الطلاق في الإغلاق (الظاهر من صنيع البخاري أنه يريد بالإغلاق الغضب، ولهذا عطف المكره عليه، فهو غير الإكراه) والمكره (الإكراه) والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره . . (علق الحافظ في الفتح على هذه الترجمة بقوله: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر) ومراده: أن الطلاق لا يقع في هذه المواطن كلها . لأن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر . وذكر لذلك أدلة منها:

1 – حديث: ” إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى ” وغير العاقل المختار – كالمجنون والسكران وأشباههما – لا نية له فيما يقول أو يفعل . وكذلك الغالط والناسي، والذي يكره على الشيء . (كما قال الحافظ).

2 – أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة على فعله وقوله – حينما سكر – فعقر بعيري ابن أخيه علي . فلما لامه النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ وهي كلمة لو قالها صاحيًا لأفضت به إلى الكفر . ولكن عرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، فلم يصنع به شيئًا . فدل هذا على أن السكران لا يؤاخذ بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره. (اعترض بعضهم على هذا الاستدلال، بأن الخمر كانت حينئذ مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحالة.

قال الحافظ بن حجر: وفيما قال نظر، فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحًا أولاً . ا هـ).

3 – ما جاء عن عثمان أنه قال: ” ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ” . رواه البخاري معلقًا . وهو تأييد لما جاء في قصة حمزة.

ووصله ابن أبي شيبة عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران . فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا: أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته . حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق . فقال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان ؟ فجلده ورد إليه امرأته.

4 – ما رواه البخاري معلقًا عن ابن عباس: ” أن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز ” أي بواقع إذ لا عقل للسكران ولا اختيار للمستكره، قال ابن حجر ووصله عنه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بلفظ: ” ليس لسكران ولا مضطهد طلاق ” والمضطهد: المغلوب المقهور.

5 – ما جاء عن ابن عباس أيضًا أنه قال: ” الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله . والوطر الحاجة . أي عن غرض من المطلق في وقوعه . السكران لا وطر له، لأنه يهذي بما لا يعرف.

6 – ما جاء عن علي: ” كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ” والمعتوه: الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران، قال الحافظ: والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه.

هذا ما استدل به الإمام البخاري لعدم وقوع طلاق السكران، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة السلف . منهم أبو الشعثاء وعطاء وطاووس، وعكرمة، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز ذكره عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني واختاره الطحاوي، واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع . قال: والسكران معتوه بسكره .

(نقل ذلك الحافظ في الفتح جـ11، ص 308 ط. الحلبي).

وهذا القول هو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا فقد روى عنه عبد الملك الميموني قوله: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز (أي يقع) حتى تبينته، فغلب على أن لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه . قال وألزمه الجناية، وما كان غير ذلك فلا يلزمه. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان – لابن القيم، ص 17).

قال ابن القيم: هو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي (من الحنفية) وإمام الحرمين (من الشافعية) وشيخ الإسلام ابن تيمية (من الحنابلة) وأحد قولي الشافعي. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان – لابن القيم، ص 17).

وقال بوقوع طلاق السكران طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وعن الشافعي قولان، المصحح منهما وقوعه . وقال ابن الرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه، وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة ألا يعلم ما يقول. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209).

قال ابن حجر: وهذا التفضيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209). . ا هـ

واستدل من قال بوقوع طلاق السكران وصحة تصرفاته عمومًا بجملة أمور أهمها :

الأول:إن هذا عقوبة له على ما جناه باختياره وإرادته.

وضعف ابن تيمية هذا المأخذ.

( أ ) بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه.

( ب ) ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها – كالأولاد إن كان له منها أولاد – ما لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره.

(جـ) ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد وغيره، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة. (فتاوى ابن تيمية، جـ 2 ص 124، ط. مطبعة كردستان . القاهرة).

الثاني: أن حكم التكليف جار عليه، وليس كالمجنون أو النائم الذي رفع عنهما القلم، وعبر عن ذلك بعضهم بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه.

وأجاب عن ذلك الطحاوي من أئمة الحنفية بأن أحكام فاقد العقل لا يختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره . إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه . كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام. (فتح الباري، جـ 11، ص 209).

يعني أنه يكون آثمًا بإضراره نفسه، ولكن هذا لا ينفي الأحكام المترتبة على عجزه الواقع بالفعل، ومثل ذلك لو شرب شيئًا أدى إلى جنونه، فإنه يكون آثما بشربه في ساعة وعيه، ولكن لا يمنع من ترتب أحكام الجنون عليه.

وكذلك قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: لو ضربت امرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف. (انظر المغني، جـ 7، ص 113، مطبعة الإمام).

واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم صحة تصرفات السكران – ومنها وقوع طلاقه – بوجوه:

أحدها:ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستنكاه ماعز بن مالك، حين أقر عنده بالزنى، ومعنى استنكاهه: شم رائحة فمه، ليعلم هل به سكر أم لا . ومقتضى هذا أنه لو كان به سكر، لم يعتبر إقراره.

الثاني:أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فقد قال تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكل من بطلت عبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده وتصرفاته أولى وأحرى . إذ قد تصح عبادة من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 – 126).

الثالث:أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل، ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلاً.

وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.

الرابع:أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصد، كما في الحديث: ” إنما الأعمال بالنيات . . . . ” فكل لفظ صدر بغير قصد من المتكلم، لسهو وسبق لسان أو عدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 – 126).

وإذا أضيفت هذه الأدلة إلى ما نقلناه من قبل عن الإمام البخاري تبين لنا بوضوح أن المذهب الصحيح الذي يشهد له القرآن والسنة وقول اثنين من الصحابة لا يعرف لهما مخالف من وجه صحيح – عثمان وابن عباس – وتؤيده أصول الشرع وقواعده الكلية: أن طلاق السكران لا يقع، لأن العلم والتمييز والقصد معدوم فيه.

بقى هنا شيء نختم به ، وهو حقيقة السكر ما هي، فقد أفهم ما حكاه الحافظ عن ابن المرابط: أن السكران من زال عقله، وعدم تمييزه بالكلية، وليس ذلك بلازم عند الأكثرين كما قال ابن القيم . بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه هو الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره، وفعله من فعل غيره.

قال ابن القيم: والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستنكه من أقر بالزنى، مع أنه حاضر العقل والذهن، يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم، صحيح الحركة . ومع هذا فجوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه. (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم، ص 31).