بداية السنة الهجرية في بدايتها بشهر المحرم لا يمكن لأحد أن يشكك فيها بحجة أن العرب كانوا يزيفون في الشهور لصالحهم العام، وذلك لما ورد عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: (الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشرا شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان). رواه البخاري.
والمعنى أن الزمن عاد إلى أصل الحساب والوضع الذي اختاره الله ووضعه يوم خلق السماوات والأرض، وذلك أن العرب كانوا يؤخرون المحرم ليقاتلوا فيه، وهكذا يؤخرونه كل سنة فينتقل من شهر إلى شهر حتى جعلوه في جميع شهور السنة، فلما كانت تلك السنة كان قد عاد إلى زمنه المخصوص به.
فضل شهر المحرم:
مع بداية كل عام هجري تتوق النفس لبداية جديدة مع ربها، ويحاسب كل منا نفسه على ما اقترف في عام مضى، ويستعد بالطاعة لما هو آت.
وتبدأ السنة الهجرية بشهر من الأشهر الحرم كما تنتهي بشهرين منها، وفي هذا دلالة تعني أن العام متواصل، وأن حساب النفس وارد في في كل أيامها وتزكية النفس وعدم ظلم الآخرين واجب، اسمع لقوله تعالى :” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” التوبة 36.
ونلاحظ من الآيات ما يلي :
أولا: هذه الأشهر حرم، ومعنى أنها أشهر (حرم) أي محرمة لا يقاتل فيها إلا من اعتدى. وهذه الأشهر هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
ثانيا: الأمر بالعدل ودفع الظلم، والعدل مع النفس يعني عدم تركها في المعاصي، والعدل مع الغير يعني توصيل الحقوق لهم، ودفع ظلمهم.
ثالثا: بالرغم من حرمة هذه الشهور إلا أن الله تعالى أباح القتال، ولكن لمن يقاتلنا، انظر لقوله تعالى:” كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً” فالاعتداء في أصله وبدايته كان منهم.
رابعا: الحث على التقوى، وهي تعني الخشية والخوف من الله تعالى والعمل بما أنزل، فكأن الإنسان في كل حركاته يتحرك بميزان الشرع فلا يحيد عنه ولا يخالفه.
فإذا كان اسم الأشهر المحرمة بالحرم، فإن المحرم منها يكون تأكيدا لهذه المعاني كلها، وكأن الإنسان يبدأ عامه مستحضرا معاني العدل، وتزكية النفس، والقرب من الله تعالى.
هل المحرم شهر الله:
ورد أن هناك أيام أفضل من غيرها كيوم الجمعة، وهناك شهور أفضل من غيرها كشهر رمضان، لما فيها من الخير والبر، وورد أن رمضان شهر الله، والمحرم أيضا شهر الله، ففي صحيح مسلم كتاب الصيام باب فضل صوم المحرم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرم. وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه. يرفعه. قال: سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان ؟ فقال ” أفضل الصلاة، بعد الصلاة المكتوبة، الصلاة في جوف الليل. وأفضل الصيام، بعد شهر رمضان، صيام شهر الله المحرم”.
وعن النعمان بن سعد قال: قال رجل لعلي: -يا أمير المؤمنين أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان فقال: ما سمعت أحدا سأل عن هذا بعد رجل سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان فقال: إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله وفيه يوم تاب على قوم ويتوب فيه على قوم” رواه الترمذي وأحمد في مسند علي بن أبي طالب.
قال الزمخشري: أضافه إليه عز اسمه تعظيماً له وتفخيماً كقولهم بيت اللّه وآل اللّه لقريش، وخص بهذه الإضافة دون بقية الشهور مع أن فيها أفضل منه إجماعاً، لأنه اسم إسلامي فإن اسمه في الجاهلية صفر الأول وبقية الشهور متحدة الأسماء جاهيلة وإسلاماً . والمحرم هو أفضل شهر يتطوع بصومه كاملاً بعد رمضان.
وقال الحافظ السيوطي: سئلت لم خصَّ المُحَرَّم بقولهم شهر الله دون سائر الشهور، مع أن فيها ما يساويه في الفضل أو يزيد عليه كرمضان، ووجدت ما يُجاب به، بأن هذا الاسم إسلامي دون سائر الشهور، فإن اسمها كلَّها على ما كانت عليه في الجاهلية، وكان اسم المُحَرَّم في الجاهلية صفر الأول، والذي بعده صفر الثاني، فلما جاء الإسلام سمَّاه الله المحرم، فأضيف إلى الله تعالى بهذا الاعتبار، وهذه فائدة لطيفة رأيتها في الجمهرة.
الطاعات في شهر المحرم:
الأشهر الحرم يستحب فيها تزكية النفس ومراجعتها، والتقرب لله تعالى لتحقيق التقوى، ومن هذه الطاعات ما ورد من استحباب الصوم في شهر المحرم،
يقول الشيخ المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذي وهو يشرح حديث الترمذي “فإن قلت: قد ثبت إكثار النبي ﷺ من الصوم في شعبان، وهذا الحديث يدل على أن أفضل الصيام بعد صيام رمضان صيام المحرم. فكيف أكثر النبي ﷺ منه في شعبان دون المحرم؟ قلت: لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما، كذا أفاد النووي رحمه الله في شرح مسلم”.
المعاصي في الأشهر الحرم:
وإذا كانت الطاعات مندوبة في كل العام فإن المعاصي في الأيام المباركة تدل على جفاء النفس وعدم تجاوبها مع مواسم الطاعة ودعوات الخير، وبالتالي فمضاعفة العذاب وارد ففي تفسير قوله تعالى :” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” يقول الإمام الرازي ” ومعنى الحرم: أن المعصية فيها أشد عقاباً، والطاعة فيهاأكثر ثواباً، والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له” .
ويقولابن كثيررحمه الله في تفسيره:”( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّأَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كماأن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْفِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحج:25. وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعيوطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قَتل في الحرم أو قتل ذا محرم، ثم نقل عنقتادةقوله:إن الظلم في الأشهرالحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكنالله يعظم في أمره ما يشاء”
ويقول القرطبي رحمه الله:” ( لا تظلموا فيهن أنفسكم) بارتكاب الذنوب، لأنالله سبحانه إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أوجهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيئ، كما يضاعف الثواب بالعملالصالح
فعلى من ارتكب معصية في الأشهر الحرم أن يبادر بالتوبة، لأنه يرتكب ذنبا كبيرا مضاعفا.
المباحات في الأشهر الحرم:
ظن كثير من الناس أن القتال في الأشهر الحرم، وصيد البر فيها والزواج كذلك محظور، والحقيقة أن الأمر مختلف، فقد أباحت الشريعة هذه الأمور.
القتال في الأشهر الحرم:
جاء في الموسوعة الفقهية الميسرة :” الأشهر الحرم هي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم . وكان البدء بالقتال في هذه الأشهر في أول الإسلام محرمًا بقوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله } ، وقوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } .
وأما بعد ذلك فذهب جمهور الفقهاء إلى أن بدء القتال في الأشهر الحرم منسوخ كما نص عليه أحمد ، وناسخه قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، وبغزوه ﷺ الطائف في ذي القعدة .
والقول الآخر : أنه لا يزال محرمًا ، ودليله حديث جابر { كان النبي ﷺ لا يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ } .
وأما القتال في الشهر الحرام دفاعًا فيجوز إجماعًا من غير خلاف .
وهذا يدل على إباحة القتال في الأشهر الحرم، وانتفاء الحرمة خاصة عندما يكون القتال دفاعا عن النفس.
صيد البر في الأشهر الحرم:
ورد قوله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ” المائدة 95، وبما أن الحج يكون في الأشهر الحرم، فيحرم الصيد ما دام الإنسان حاجا، وما كان من غير الحاج خارج الحرم فلا يحرم، وفي قوله تعالى “وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا” يقول القرطبي :” التحريم ليس صفة للأعيان, إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله : ” وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما” أي فعله, وهو المنع من الاصطياد حالة الإحرام” ومعنى هذا أن غير المحرم لا مانع من أن يصطاد الطير في الأشهر الحرم خارج الحرم.
الزواج في الأشهر الحرم:
ظن البعض أن الزواج بين العيدين (الفطر والأضحى) نذير شؤم، ومعلوم أن ذا القعدة، وبدايات ذي الحجة يدخل في ذلك، وهذا بعيد عن الصحة فقد تزوج النبي –ﷺ – بعائشة في شوال وبنى بها في شوال، ونهينا عن التطير والتشاؤم.