الاغترار بالمناصب نوع من الخيلاء الذي ينهى عنه الله تعالى ، وهو سمة النفوس الضعيفة التي يعلو المنصب فوقها، أما النفوس الكريمة فهي التي لا تفتن بالمناصب، ويكفي المرء أن يعرف أنه كلما علا منصبه كثر حسابه، وفي سير السابقين وتورعهم عبرة.
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر –رحمه الله- في كتابه يسألونك..:
السبب في ذلك هو صغر النفوس وسوء الطباع ؛ والقياس الصحيح في ذلك أن من تغيرت أخلاقه بعد ذلك المنصب فقد أفهم مَن حوله أن المنصب أكبر منه، ولذلك أثَّر فيه وسيطر عليه، وجعله عبدًا له، وأن مَن بقيت طباعه على سلامتها وأصالتها ولم تتغير، فقد أقام الدليل على أنه أكبر من المنصب، وأعزُّ من أن يخضع له. وقديمًا كان أسلافنا ـ رضوان الله عليهم ـ يَلُونَ ما يَلُونَ من الوظائف والأعمال والولايات، فلا يغير ذلك من فضائلهم قليلاً أو كثيرًا، وكانوا إذا رأوا شخصًا غيره منصب أو ولاية، نبذوه نبذ النواة، وسخروا منه في كل مناسبة.
وكلما كانت هِمَّةُ المرء ضيقة تافهة ازداد فرحه بالمنصب وعُجبه به، وأما إذا كان كبير القلب والعزم، فإنه يطمح في المجد فعلا، ولكن إذا جاءه لم يقنع به، بل تطلعت عيناه إلى أمله فاتسع وانفسح، مع الاحتفاظ الدائم بالفضائل ومكارم الأخلاق، وممن يعدون قدوة في هذا الباب عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس، والإمام العادل ـ رضي الله عنه ـ فقد كان يعد الحرير ملبسًا خشنًا قبل الخلافة، ولكنه بعد أن صار خليفة كان يَعُدُّ الصوف الخشن لَيِّنًا، ويطلب ما هو أخشن منه في اللباس، وقد ترجم عمر عن هذه الروح فقال: ” كانت لي نفس توَّاقة فكنت لا أنال شيئًا إلا تاقت لمَا هو أعظم منه، فلمَّا بلغتْ نفسي الغايةَ تاقت إلى الآخرة “.
ولقد دخل عليه أبو حازم سلمة بن دينار الخناصري، فعرفه عمر ولم يعرفه أبو حازم، ثم قال له عمر: ادنُ منِّي فدنَا منه أبو حازم، وقال: أنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: ألم تكن عندنا بالمدينة أميرًا على المسلمين، فكان مركبك وثوبك نقيًّا، ووجهك بهيًّا، وطعامك شهيًّا، وقصرك مشيدًا، وخدمك كثيرًا، فما الذي غيَّرك وأنت أمير المؤمنين؟
فبكى عمر وقال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثلاثٍ في قبري، وقد سالتْ حدقتاي على وجْنتي، ثم جفَّ لساني، وانشقَّ بطني، وجرتِ الديدان في بدني، لكنتَ أشد إنكارًا منك يومك هذا، أعد علي الحديث الذي حدثتني به بالمدينة.
فقال أبو حازم: يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: ” إن بين أيديكم عقبةً كَؤودًا مضرسةً، لا يَجوزها إلا كلُّ ضامرٍ مهزول”. فبكى عمر طويلًا، ثم قال: يا أبا حازم، ألا ينبغي لي أن أضمِّر نفسي لتلك العقبة، فعسى أن أنجو منها يومئذ، وما أظن أني مع هذا البلاء الذي ابتليتُ به من أمور الناس بناجٍ؟.
ولقد سمع عمر أبا سلام الحبشي يقول: قال النبي: ” إن حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد النجوم، مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أوَّلُ الناس وُرودًا عليه فقراء المهاجرين “. فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله قال: ” هم الشُّعْثُ رؤوسًا، الدنس ثيابًا، الذين لا يَنكحونَ المُتنعمات، ولا تُفتح لهم أبواب السدد ” فلمَّا سمع عمر بن عبد العزيز قال: لقد نكحتُ المُتنعمات، وفُتحت ليَ أبواب السدد، إلا أن يرحمني الله، لا جرَمَ لا أدهن رأسي حتى يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتَّسخ.
هكذا تفعل النفوس الكبيرة، لا تزداد مع الرِّفْعة إلا تواضعًا، وأما النفوس الصغيرة فيزدهيها الفوز الحقير، فكيف بالكبير؟ أصلح الله نفوسنا، وهدانا سواء السبيل.