يقول فضيلة الشيخ : السيد سابق ـ رحمه الله ـ في كتابه فقه السنة[1] مبينا العيوب التي تثبت الخيار بين الزوجين:
إنَّ الحياة الزوجية التي بنيت على السكن والمودة والرحمة لا يمكن أن تتحقق وتستقر مادام هناك شيء من العيوب والأمراض ما ينفر أحد الزوجين من الآخر. فإن العيوب والأمراض المنفرة لا يتحقق معها المقصود من النكاح.
ولهذا أذن الشارع بتخيير الزوجين في قبول الزواج أو رفضه.
وللإمام ابن القيم تحقيق جدير بالنظر والاعتبار:
قال: فالعمى، والخرس، والطرش، وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما، أو كون الرجل كذلك، من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين .
وقد قال أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: أخبرها أنك عقيم، وخيرها. فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هي عندها كمال بلا نقص .
قال: والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع. وما ألزم الله رسوله مغرورًا قط،ولا مغبونا بما غر وغُبن به .
ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره، وموارده، وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد الشريعة .
وقد روي يحي بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص، فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي الصداق بما دلس، كما غره .
وروى الشعبي عن علي كرم الله وجه: أيما امرأة تزوجت وبها برص أو جنون، أو جذام، أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها .
وقال وكيع: عن سفيان الثوري، عن يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب، عن عمر رضي الله عنه قال: “إذا تزوجها برصاء أو عمياء، فدخل بها فلها الصداق، ويرجع به على من غره “.
قال: وهذا يدل على أن عمرلم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها .
وكذلك حكم قاضي الإسلام – شريح رضي الله عنه- الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه .
قال عبد الرازق: عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين رضي الله عنه، خاصم رجل رجلاً إلى شريح فقال: إن هذا قال لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاءني بامرأة عمياء. فقال شريح: إن كان دلس عليك بعيب لم يجز .
فتأمل هذا القضاء وقوله: “إن كان دلس عليك بعيب” كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به .
قال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال قال: ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب، إلا رواية رويت عن عمر: “لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة: الجنون ، والجذام، والبرص، والداء في الفرج “.
وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما .
وقد روي ذلك عن ابن عباس بإسناد متصل. هذا كله إذا أطلق الزوج .
وإما إذا اشترط السلامة، أواشترط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها شابه حديثه السن فبانت عجوزًا شمطاء. أو شرطها بيضاء فبانت سوداء. أو بكرًا فبانت ثيبًا فله الفسخ في ذلك كله. فإن كان قبل الدخول فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر. وهو غُرم علي وليها إن كان غره .
وإن كانت هي الغارة سقط مهرها، أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه. وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط .
وقال أصحابه إذا اشترطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها، إلا في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار ..
وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان. والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها. بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى. لأنها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق .
فإذا جاز له الفسخ من تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى. وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة. لا تشينه في دينه ولا في عرضه، وإنماتمنع كمال لذتها واستمتاعها به .
فإذا شرطته شابًا جميلاً صحيًا فبان شيخًا مشوهًا أعمى، أطرش، أخرس، أسود، فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ؟
هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع .
قال: وكيف يُمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير .
وكذلك غيره من أنواع الداء العضال .
وإذا كان النبي حرم على البائع كتمان عيب سلعته، وحرم على من علمه أن يكتمه عن المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح؟ ..
وقد قال النبي ﷺ لفاطمة بنت قيس، حين استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم: “أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه. فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب .
فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه؟ وجعل ذي العيب غلا لازمًا في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟
وهذا ما يعلم يقينًا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم.انتهى.
وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد،ولا خيار له فيه، ولا إجازة ، ولا نفقة. ولا ميراث .
قال: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج، إذ السالمة غير المعيبة بلا شك. فإذا تزوجها فلازوجية بينهما .
ما جرى عليه العمل بالمحاكم :
وقد جرى العمل الآن بالمحاكم حسب ما جاء بالمادة التاسعة منقانون سنة 1920. “أنه يثبت للمرأة هذا الحق إذا كان العيب مستمكنًا لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن، و لايمكنها المقام معه إلا بضرر أيًا كان هذا العيب،كالجنون، والجذام، والبرص، سواء أكان ذلك بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به، فإن تزوجته عالمة بالعيب، أو حدث العيب بعد العقد، ورضيت صراحة أو دلالة بعد علمها، فلا يجوز طلب التفريق، واعتبر التفريق في هذا الحال طلاقًا بائنًا، ويستعان بأهل الخبرة في معرفة العيب، ومداه من الضرر.
انتهى كلام الشيخ.
[1] فقه السنة (2/41-44) الفتح للاعلام العربي ـ القاهرة.