العسل من الطيبات التي وهبها الله لعباده وجمع لهم فيها الغذاء والشفاء والتفكه، ولهذا ذكره الله في معرض الامتنان على خلقه في سورة سميت “سورة النحل” صانع العسل، وسماها بعض السلف “سورة النعم” قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كُلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) (النحل: 68 ـ 69).
فهل يجب في هذا العسل زكاة، كما وجب فيما أخرج الله من الأرض؟
القائلون بزكاة العسل:
ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بوجوب الزكاة في العسل بشرط ألا يكون النحل في أرض خراجية، فإن الخراجية يدفع عنها الخراج، ولا يجتمع حقان لله في مال واحد بسبب واحد، وسواء أكانت الأرض عشرية أو لم تكن، كما إذا كان النحل في مفازة أو جبل فإنه فيه العشر (انظر الهداية وفتح القدير: 2/5 ــ 7 والدر المحتار وحاشيته: 2/604 ــ 605).
وكذلك ذهب أحمد إلى وجوب الزكاة في العسل.
قال الأثرم: سُئل أبو عبد الله ـ يعنى ابن حنبل ـ أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال: نعم أذهب إلى أن في العسل زكاة، فقد أخذ عمر منهم الزكاة قلت: ذلك على أنهم تطوعوا به؟ قال لا، بل أخذه منهم (المغنى: 2/713).
وهو قول مكحول والزهري وسليمان بن موسى والأوزاعى وإسحاق (المصدر السابق، ومعالم السنن: 2/209) وحكاه في “البحر” عن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والهادي والمؤيد بالله، وقولاً للشافعي، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وخالفه ابن عبد البر فحكى القول المخالف عن الجمهور (نيل الأوطار: 4/146، وقد اختلفت الرواية عن عمر بن عبد العزيز، فحكى البخاري وابن أبى شيبة وعبد الرزاق وعنه: أنه لا يجب في العسل زكاة، وروى عنه عبد الرزاق مثل ما روى صاحب البحر، ولكن بإسناد ضعيف، كما قال الحافظ في الفتح).
أدلة الموجبين:
اعتمد أصحاب هذا الرأي على دليلين: أولهما الآثار، وثانيهما النظر والاعتبار.
أولاً ـ الآثار، ومنها:
( أ ) ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -ﷺ-: “أنه أخذ من العسل العشر” (رواه ابن ماجه) ــ قال الدارقطني: يُروى عن عبد الرحمن ابن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندًا، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب مرسلاً، قال الحافظ: فهذه علته، وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان، لكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات، وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن ابن ماجه وغيره (انظر مختصر السنن: 2/209، 210).
وروى أبو داود ـ واللفظ له ـ والنسائي عنه قال: جاء هلال أحد بنى متعان إلى رسول الله -ﷺ- بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمى واديًا يقال له “سلبة” فحمى له رسول الله -ﷺ- ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدى إلى رسول الله -ﷺ- من عشور نحله فاحم له “سلبة” وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء، قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، وترجمة عمرو قوية على المختار، ولكن حيث لا تعارض (فتح الباري: 3/223 ـ طبع الخيرية. وذكر الحافظ خبرًا رواه عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز يدل على أن هلالاً أعطى ذلك تطوعًا .قال: لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب).
(ب) وعن سليمان بن موسى: “أن أبا سيارة المتعي قال: قلت: يا رسول الله: إن لي نحلاً، قال: فأد العشور، قلت: يا رسول الله، احم لي جبلها، قال: فحمى لي جبلها” (رواه أحمد وابن ماجه) (ذكره في المنتقى عنهما، وقال الشوكاني، أخرجه أيضًا أبو داود والبيهقي، وهو منقطع لأن سليمان لم يدرك أحدًا من الصحابة كما قال البخاري – انظر نيل الأوطار: 4/146 ــ طبع العثمانية، والتلخيص لابن حجر ص 180)
( ج ) وروى البيهقي عن سعيد بن أبى ذباب: “أن النبي -ﷺ- استعمله على قومه، وأنه قال لهم: أدوا العشر في العسل، وأنه أتى به عمر فقبضه، فباعه، ثم جعله في صدقات المسلمين” وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري وغيره (التلخيص ص 180 ) ـ وفى رواية عنه أنه قال لقومه: إنه لا خير في مال لا زكاة فيه، قال: فأخذت من كل عشر قرب قربة، فجئت بها إلى عمر بن الخطاب، فجعلها في صدقات المسلمين (رواه سعيد في سننه) (المغنى: 2/715)، وروى الأثرم عنه: أن عمر أمره في العسل بالعشر (المرجع السابق ص 714).
(د) وروى الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله -ﷺ- قال: “في العسل في كل عشرة أزقاق زق”، وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ وقد خولف.
وهذه الأحاديث والآثار، وغيرها مما ورد في الموضوع ـ وإن كان في أسانيدها كلام ـ يقوى بعضها بعضًا، ويدل على أن لهذا الحكم أصلاً.
قال ابن القيم بعد أن ذكر هذه الأحاديث وتضعيف الآخرين لها: وذهب أحمد وجماعته إلى أن في العسل زكاة ورأوا أن هذه الآثار يقوى بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها، وقد سئل أبو حاتم الرازي عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبى ذباب: يصح حديثه ؟ قال: نعم (زاد المعاد: 1/312، والحديث من رواية منير بن عبد الله عن أبيه عن ابن أبى ذباب).
ثانيًا: يؤيد ذلك من جهة الاعتبار والقياس أن العسل فيه العشر يتولد من نور الشجر والزهر، ويكال ويدخر، فوجبت فيه الزكاة كالحب والتمر، ولأن الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار (زاد المعاد: 1/314).
ومذهب أبى حنيفة أن العسل فيه العشر في الأرض العشرية، أما في الأرض الخراجية فلا زكاة فيه بناء على أصله: أن العشر والخراج لا يجتمعان، لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراج لأجل نمائها وزرعها فلم يجب فيها حق آخر لأجلها، وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها، فلذلك وجب الحق فيما يكون منها، وسوَّى الإمام أحمد بين الأرضين في ذلك، وأوجبه فيما أخذ من ملكه أو من موات، عشرية كانت الأرض أو خراجية (المصدر السابق).
مذهب من لم يوجب في العسل زكاة:
وقال مالك والشافعي وابن أبى ليلى والحسن بن أبى صالح وابن المنذر: لا زكاة في العسل، واحتجوا بأمرين:
الأول: ما قاله ابن المنذر أنه ليس في وجوب الصدقة فيه خبر يثبت ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
والثاني: أنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع (المغنى: 2/713).
رأي أبي عبيد:
ووقف أبو عبيد موقفًا وسطًا بين من أوجب الزكاة ومن لم يوجبها في العسل، لما لاح منه من تعارض الآثار الواردة، وإن كان قد مال إلى إيجاب الزكاة بقدر.
قال بعد حكاية القولين في زكاة العسل: وأشبه الوجوه في أمره عندي أن يكون أربابه يؤمرون بأداء صدقته، ويحثون عليها، ويكره لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها، من غير أن يكون ذلك فرضًا عليهم كوجوب صدقة الأرض والماشية، ولا يجاهد أهله على منع صدقته كما يجاهد مانعو ذينك المالين، وذلك أن السنة من رسول الله -ﷺ- لم تصح فيه كما صحت فيهما، ولا وجدت في كتب صدقاته، ولو كانت بمنزلتها لكانت لها أوقات (حدود) ومعالم كالحدود التي حدها في تلك: من الأوسق الخمسة فيما يخرج من الأرض، ومن الأربعين من الغنم، وكذلك لم يثبت عن أحد من الأئمة بعده.
إلا إنه قد يجب على الإمام إذا أتاه رب العسل بصدقته أن يقبلها منه، كما قبل عمر من ابن أبي ذباب.
ثم قال: فهذا حدها: أن يكون تركها تفريطًا وجفاء من مانعيها في الدين، وليس بحكم يؤخذ به على الكره والرضا (الأموال ص 506، 507).
ترجيح إيجاب الزكاة في العسل:
والذي نختاره في ذلك أن العسل مال، ويبتغى من ورائه الفضل والكسب، فهو مال تجب فيه الزكاة ـ ودليلنا على ذلك :
( أ ) عموم النصوص التي لم تفصل بين مال وآخر، مثل قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة ) (التوبة: 103)، وقوله: ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) (البقرة 267)، وقوله: ( أنفقوا مما رزقناكم ) (البقرة 254) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
( ب ) القياس على ما فرض الله فيه الزكاة من الزروع والثمار، فما أشبه الدخل الناتج من استغلال الأرض بالدخل الناتج من استغلال النحل ويقيننا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، كما لا تسوى بين مختلفين.
(ج) الآثار والأحاديث التي وردت في ذلك من طرق مختلفة، فإنها ـ كما قال ابن القيم ـ يقوى بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها، ولهذا لم يجزم الترمذي رحمه الله بنفي الصحة عن أحاديث هذا الباب نفيًا مطلقًا كما قال غيره، بل قال: ولا يصح في هذا الباب كبير شيء عن النبي -ﷺ- (صحيح الترمذي شرح ابن العربى: 2/123).
ومفهوم هذا: أنه صح فيه شيء وإن كان غير كبير، قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم (المرجع السابق).
وقد ذهب الشوكاني إلى ذلك في “الدرر البهية” رغم ميله إلى التضييق في إيجاب الزكاة، فقال: “ويجب في العسل العشر” وأيده شارحها صديق حسن خان، وذكر الآثار الواردة، ثم قال: وجميعها لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به (الروضة الندية: 1/200).
وأما قول المانعين إنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، ولا زكاة في اللبن إجماعًا، فالجواب ما قاله صاحب المغنى: إن اللبن قد وجبت الزكاة فى أصله وهو السائمة بخلاف العسل (المغنى: 2/714 ـ الطبعة الثانية).
مقدار الزكاة في العسل:
اتفق الموجبون لزكاة العسل على أن الواجب فيه العشر، للآثار التي ذكرناها، وقياسا على الزرع والثمر (المغنى: 1/713).
وهل ينظر فيه للكلفة والمؤونة أم لا؟
روى أبو عبيد بسنده عن عمر أنه قال في عشور العسل: ما كان منه في السهل ففيه العشر، وما كان منه في الجبل ففيه نصف العشر (الأموال ص 498).
فنظر إلى أن للكلفة والمشقة أثرًا في تقليل الواجب كما في الزرع.
ولم يخالف في ذلك إلا الناصر من آل البيت فقال: فيه الخمس كالفيء، إذ ليس مكيلاً ولا من الأرض (البحر الزخار: 1/ 174) ورد عليه بأنه كالثمر لتولده من الشجر، وقد عضدت ذلك الآثار (المرجع السابق).
والذي نرجحه أن يؤخذ العشر من صافى إيراد العسل، أي بعد رفع النفقات والتكاليف كما قلنا في عشر الزرع والثمر.
أما نصاب العسل فلم ترد الآثار بحد معين فيه، ولهذا اختلفوا فيه، فأبو حنيفة يرى في قليله وكثيره العشر، بناء على أصله في الحبوب والثمار (بدائع الصنائع: 1/61).
وعن أبى يوسف أنه اعتبر نصابه أن يبلغ قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال كالشعير، فإن بلغها وجب فيه العشر وإلا فلا، بناء على أصله من اعتبار قيمة الأوسق فيما لا يكال (المرجع السابق).
وعنه: أن النصاب عشرة أرطال (نفس المرجع).
وعن محمد جملة روايات: من خمسة أفراق إلى خمسة أمنان، إلى خمس قرب (بناء على أصله من اعتبار خمسة أمثال من أعلى ما يقدر به) وقدر الفرق بستة وثلاثين رطلاً، والمن رطلان، والقربة مائة رطل.
وعن أحمد: نصابه عشرة ـأفراق، والخبر روى عن عمر في ذلك، وجاء عن أحمد أن الفرق ستة عشر رطلاً فيكون النصاب مائة وستين رطلاً بالبغدادي، ومائة وأربعة وأربعين بالمصري.
والراجح عندنا أن يقدر النصاب بقيمة خمسة أوسق (أي 647 كيلو جرام أو 50 كيلة مصرية) من أوسط ما يوسق كالقمح، باعتباره قوتا من أوسط الأقوات العالمية، وقد جعل الشارع الخمسة الأوسق نصاب الزروع والثمار، والعسل مقيس عليهما، ولهذا يؤخذ منه العشر، فنجعل الأوسق هي الأصل في نصابه.
واعتبار قيمة الأدنى كالشعير كما قال أبو يوسف ـ وإن كان فيه رعاية للفقراء ـ فيه إجحاف بأرباب الأموال، واعتبار الأعلى كالزبيب فيه إجحاف بالفقراء، واعتبار الوسط هو الأعدل للجانبين كما رجحناه من قبل.