اختلف الفقهاء فيما يترتب على رؤية الهلال نهارا بسبب الكسوف أو غيره من الأسباب، وللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال: فهناك من لا يعتد بالرؤية إلا إذا كانت بعد الغروب، وما رئي بالنهار لا عبرة له، وهناك من فرق بين رؤية الهلال قبل الزوال فيكون هذا اليوم من أيام رمضان، وبين رؤيته بعد الزوال فيكون اليوم الذي رئي فيه الهلال هو تمام شعبان، والقول الثالث ذهب إلى أنه إذا رؤي الهلال نهارا فإن ذلك معناه أن غدا هو بداية الشهر سواء كانت الرؤية قبل الزوال أو بعده.
فقد فُرض على المسلمين صيام شهر رمضان من كل عام، وعدّ ذلك رسول الله ﷺ من أركان الإسلام، وإنما يجب الصيام على المسلم ويلزمه، إذا علم بدخول الشهر علم يقين، أو على الأقل بظن راجح، كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه} البقرة: 185. والمراد بشهود الشهر هنا: العلم به.
وروى الشيخان أن رسول الله ﷺ قال: “صوموا لرؤيته – أي الهلال- وأفطروا لرؤيته[1].
ورويا أيضا: “لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له”[2].
فربط دخول الشهر برؤية الهلال، لأنها كانت العلامة المقدورة والميسرة لجميع الناس، ولم يربطه بحساب الفلك، أو تقدير منازل القمر، مما لا يعلمه إلا القليل – بل النادر- من الناس في ذلك الوقت، وقد كانوا من غير المسلمين.
إلا أن العبارة النبوية “فإن غم عليكم فاقدروا له” فتحت بابا لأهل الاجتهاد والاستنباط، فقد أخذ بعض علماء السلف ومنهم الإمام أبو العباس بن سريج أن عبارة ” فاقدروا له” : خطاب لأهل العلم بالحساب الفلكي، وهو ما قال به بعض التابعين مثل: مطرف بن عبد الله، وقال به قتادة. ولذا قال من قال في المذاهب الثلاثة: الشافعية والمالكية والحنفية، باعتبار الحساب الذي نبغ فيه المسلمون أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، وتقدم في عصرنا تقدما هائلا، على أساسه وصل الإنسان إلى القمر، وحاول غزو الكواكب الأخرى كالمريخ.
ويمكن أن نعتمد الحساب في عصرنا ـ على الأقل ـ في النفي لا في الإثبات. على معنى أن لا نناقض الحساب إذا نفى إمكان الرؤية. فإن هذا النفي قائم على قواعد علمية رياضية قطعية، ولم يجئ الشرع أبدا بمناقضة القطعيات، وقد فصلنا هذا في مقام آخر. فليرجع إليه.[3]
وإذا كانت الرؤية هي المعتمدة بالإجماع فإن المعتاد في الهلال أن تكون رؤيته بعد غروب الشمس، لأن سطوع الشمس بالنهار، يحول دون التمكن من رؤية الهلال، وإذا رُئي الهلال بعد الغروب، فهو بداهة لليوم القادم.
فإذا رئي الهلال في النهار، بسبب كسوف الشمس ووجود الظلمة التي يؤكدها الكسوف الجزئي أو الكلي؟
لقد ذكر الفقهاء هذه القضية، واختلفوا فيها على عدة أقوال:
1- قول من لا يعتد بالرؤية إلا إذا كانت بعد الغروب، وهو مروي عن أبي حنيفة ومحمد، وما رئي بالنهار لا عبرة له.[4] وكذلك نقل عن الشافعية: أنهم قالوا: لا تكفي رؤيته نهارا عن رؤيته ليلة الثلاثين.
2- وقول من يعتمد بالرؤية النهارية، ولكنه يفرق بين ما رئي قبل الزوال، وما رئي بعده، فما كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وما رئي بعد الزوال، فهو لليلة المقبلة؛ لأن ما بعد الزوال ملحق بما بعد الغروب، فهو أقرب إليه. وقد جاء ذلك عن علي وعائشة، وهو رواية عن عمر أيضا.[5]
3- وقول من يرى: أن الرؤية في النهار معتبرة شرعا، وأن ما رؤي في النهار فهو لليلة القادمة، سواء كان قبل الزوال أم بعده. وهو رواية أخرى عن عمر، كما نقل عن ابنه عبد الله، وعن ابن مسعود وعن أنس: أن رؤية الهلال بالنهار لليلة القادمة، وهو المعتمد عند الجمهور: قال في الدر المختار: رؤيته بالنهار لليلة الماضية الآتية مطلقا على المذهب قال في الحاشية: سواء قبل الزوال أو بعده[6].
وعن مالك في المدونة: من رأى هلال شوال نهارا فلا يفطر، ويتم صيام يومه ذلك فإنما هو هلال الليلة التي تأتي.[7]
وهذا الذي مايتم ترجيحه؛ لأن ما قبل رؤية الهلال لا يكون من الشهر، إذ بها يعد الشهر، فكيف يعتبر من رمضان فيصام، إن كان هلال رمضان؟ أو يعتبر من شوال فيفطر ويحرم فيه الصوم قبل ثبوت الشهر؟
وقد لخص الإمام ابن قدامة فقه المسألة في كتابه ( المغني) فأحسن، حين شرح قول العلامة الخرقي في مختصره: ( وإذا رئي الهلال نهارا ، قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المقبلة) قال رحمه الله:
وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد: أن الهلال إذا رئي نهارا، قبل الزوال أو بعده، وكان ذلك في آخر رمضان، لم يفطروا برؤيته. وهذا قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس والأوزاعي ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي حنيفة.
وقال الثوري وأبو يوسف: إن رئي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه. رواه سعيد؛ لأن النبي ﷺ قال:” صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته” وقد رأوه فيجب الصوم والفطر، ولأن ما قبل الزوال أقرب إلى الماضية وحكي هذا رواية عن أحمد.
قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو وائل، قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين[8]، أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية[9].
ولأنه قول ابن مسعود وابن عباس ومن سمينا من الصحابة وخبرهم ( أي المخالفين) محمول على ما إذا رئي عشية، بدليل ما لو رئي بعد الزوال.
ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد، بدليل ما لو رآه عشية.
فأما إن كانت الرؤية في أول رمضان فالصحيح أيضا أنه لليلة المقبلة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي.
وعن أحمد رواية أخرى أنه للماضية، فيلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته احتياطا للعبادة، والأول أصح، لأن ما كان لليلة المقبلة في آخره، فهو لها في أوله، كما لو رئي بعد العصر.[10]
وبهذا يتضح أنه إذا كانت رؤية الهلال بعد منتصف النهار، وبتعبير آخر: بعد زوال الشمس، فقد اتفق جمهورالفقهاء على أنه يعتبر لليلة القادمة، ولا صيام على الناس في ذلك اليوم- أي بقية النهار- إن كان هلال رمضان. كما لا فطر عليهم في ذلك اليوم وإعلان العيد، إن كان هلال شوال. وذلك بالإجماع المتيقن، كما قال الإمام ابن حزم.
وإنما أجمعوا على ذلك؛ لاتفاق الروايات عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم باعتبار رؤية الهلال بعد الزوال لليلة القادمة[11].
[1] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (656) رواه البخاري في الصوم (1909) ومسلم في الصيام (1081) عن أبي هريرة.
[2] متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان (653) رواه البخاري في الصوم (1906) ومسلم في الصيام (1080) عن ابن عمر.
[3] فصلنا هذا في كتابنا ( كيف نتعامل مع السنة النبوية) وفي كتابنا (فقه الصيام).
[4] انظر: حاشية ابن عابدين على الدر المختار (6/ 251) بتحقيق د. حسام الدين فرفور.
[5] راجع المحلى لابن حزم (3/540 – 543) والاستذكار لابن عبد البر (4/9- 11).
[6] انظر: المرجعين السابقين.
[7] انظر: المدونة ( 1/ 175).
[8] بلدة من نواحي السواد، في طريق همذان من بغداد.
[9] رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/213) وعبد الرزاق ( 4/ 162، 163) وابن أبي شيبة (3/ 67).
[10] انظر: المغني ( 4/ 431، 432) طبعة هجر.
[11] راجع المحلى لابن حزم (3/540 – 543) والاستذكار لابن عبد البر (4/9- 11).