يقول فضيلة الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة – أستاذ الفقه وأصوله -:ـ
إن كثيراً من الناس يفتون بغير علم ويتجرؤون على دين الله سبحانه وتعالى وهذا يدل على قلة العلم وقلة التقوى والورع والعياذ بالله . وقد كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام ومنكراً عظيماً يجب أن يمنع .
في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال :( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء . فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ) .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن النبي ﷺ :( من أُفتِيَ بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه ) وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المشكاة 1/81. وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم وحشر نفسه في زمرتهم وغر الناس بمظهره وسمته .
وقرر العلماء : أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره على ذلك فهو عاص أيضاً . وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق . وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم . وإذا كان يتعين منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين ؟
إذا تقرر هذا فمن قال بلى ونحوها في الصلاة فأقول :
أولاً: إن الادعاء بإبطال صلاة المصلين لقولهم بلى في الصلاة المذكورة إدعاء بلا دليل ولا يجوز لأحد أن يقدم على إبطال صلاة أحد بدون دليل شرعي معتبر .
ثانياً : إن قول بعض المصلين بلى عند قراءة الإمام لقوله تعالى :( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) له دليل ومستند وإن كان فيه كلام لأهل العلم فمن العلماء من يرى أن المصلي يقول ذلك في الصلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً ويقوله المستمع خارج الصلاة وبه قال جمهور العلماء كما في المجموع للنووي 4/67 . ومن العلماء من قال يقوله خارج الصلاة لا داخلها ولو قال ذلك داخل الصلاة لا تبطل صلاته . انظر المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود 5/336 .
ومما يدل على أن المصلي يقول ذلك في صلاته ما رواه أبو داود بإسناده عن موسى بن أبي عائشة قال :( كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ :( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) قال : سبحانك فبلى . فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله ﷺ ) قال الشيخ الألباني : صحيح . انظر صحيح سنن أبي داود 1/168 .
وورد في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ :( من قرأ منكم بـ :(و َالـتِّيـنِ وَالزَّيْتُونِ ) فانتهى إلى :( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين . ومـن قـرأ ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) فانتهى إلى :( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) فليقل : بلى . ومن قرأ المرسلات فبلغ ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) فليقل آمنا بالله ) رواه أبو داود وروى الترمذي بعضه إلى قوله :( وأنا من الشاهدين ) والحديث ضعيف عند أكثر المحدثين . انظر المجموع للنووي 4/67 وتمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 186 وشرح السنة 3/105 قال الحافظ هذا حديث حسن يتقوى بكثرة طرقه ثم ذكر من أخرجه . ثم قال الحافظ :[ وإطلاق الضعف على هذا الحديث متعقب فإنه قد جاء عن غير أبي هريرة فجاء من حديث البراء بن عازب أخرجه عنه ابن مردويه … ومن حديث جابر أخرجه ابن المنذر في تفسيره … ومن حديث ابن عباس … ومن حديث صحابي لم يسم أخرجه أبو داود عنه … وورد مرسلاً عن قتادة … أخرجه الطبري وسنده صحيح أو حسن لشواهده ومع تعدد هذه الطرق يتضح أن إطلاق كون هذا الحديث ضعيفاً ليس بمتجه ] انتهى كلام الحافظ ملخصاً من شرح ابن علان على الأذكار . وأشار الحافظ إلى أن هذا الحديث من فضائل الأعمال فيعمل به وإن كان فيه اختلاف . انظر مرقاة المفاتيح 2 /586 .
وقال الإمام النووي ::[ ويستحب له أن يقول ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال : من قرأ والتــين والـزيـتون فقال : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ) رواه أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن رجل عن أعرابي عن أبي هريرة رضي الله عنه . قال الترمذي : هذا الحديث إنما يروي بهذا الإسناد عن الأعرابي عن أبي هريرة قال ولا يسمى .
وروى ابن أبي داود والـتـرمذي :( ومن قرأ آخر ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) فليقل : بلى . ومن قرأ :( فَبِأَيِّ ءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) أو ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) فليقل آمنت بالله ) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وابن الزبير وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا قرأ أحدهم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال : سبحان ربي الأعلى . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول فيها سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى فقرأ آخر سورة بني إسرائيل ثم قال : الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً . وقد نص بعض أصحابنا على أنه يستحب أن يقال في الصلاة ما قدمناه ، وفي حديث أبي هريرة في السور الثلاث وكذلك يستحب أن يقال باقي ما ذكرناه وما كان في معناه والله أعلم ]. التبيان في آداب حملة القرآن ص 65-66 .
وقال الإمام النووي أيضاً:[ قال الشافعي وأصحابنا يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب أو بآية تسبيح أن يسبح أو بآية مثل أن يتدبر قال أصحابنا ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد وإذا قرأ ( أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) قـال بـلى وأنا على ذلك من الشاهدين وإذا قرأ ( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) قال آمنا بالله . وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين … ثم ذكر أدلة ذلك ثم قال : هذا تفصيل مذهبنا وقـال أبو حنيفة رحمه الله يكره السؤال عند آية الرحمة والاستعاذة في الصلاة . وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم ] المجموع 4/66-67 .
والذي يظهر لي من كلام أهل العلم أنه يجوز للمصلي أن يقول بلى في المواقع التي سبقت سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً وسواء صلى فريضة أم نافلة . ولا يصح القول ببطلان صلاة المصلي إن قال ذلك حتى عند من يمنع من قول ذلك في الصلاة المفروضة وهو قول الحنفية حيث قالوا :[ ولو عمل به أحد في الصلاة لا تفسد ] إعلاء السنن 4/168 .