المزاح والضحك ليس مذموما في ذاته، بل هو مطلوب شرعا خاصة عند خوف السآمة والملل، ومن المزاح ما يسمى بالنكت فلا مانع منها شرعا بشرط أن يلتزم صاحبها الصدق، ولا يأتي فيها بشيء من الكذب، وأن لا تغلب على الجد، وأن لا تشتمل على تحقير أو امتهان طائفة من الناس، فإن اشتملت على شيء من ذلك كانت حراما.
يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:-
لقد رأيت الناس – بفطرتهم – وعلى قدر ما سمحت به إمكاناتهم، وفي ضوء ما عرفوه من سماحة دينهم – قد ابتكروا ألوانًا من الوسائل والأدوات التي تقوم بوظيفة الترويح والإضحاك لهم.
ولا يكاد يجلس الناس بعضهم إلى بعض إلا حكوا من هذه النكت ما يضحكهم ويُسرِّي عنهم بعض ما يعانون. أحيانًا يسندونها إلى أسماء معروفة، مثل جحا، أو أبي نواس، أو غيرهما، وأحيانًا لا ينسبونها إلى معين.
وهناك أناس لا يقتصرون على حكاية النكت عن غيرهم، بل هم ينشئون نكتًا على البديهة، وهذا شأن الشخصيات الفكهة، مثل “أشعب” قديمًا، ومثل الشيخ “عبد العزيز البشري” حديثًا في مصر.
وكانت في مصر بعض المجلات المتخصصة في هذا اللون، أشهرها مجلة “البعكوكة”.
ويلحق بذلك فن “القفشات” وما يسميه المصريون “الدخول في قافية” وهو لون من استخدام المجاز والتورية حول موضوع واحد، يتطارح فيه الطرفان.
ومن ذلك: ألوان من الألعاب التي تدعو إلى الضحك والمرح، مثل لعبة “الأراجوز”.
ومثله “خيال الظل” الذي كان يعتبر نوعًا من التمثيل الشعبي الفكاهي.
ومن ذلك: الألغاز والأحاجي، أو ما يسمى في لغة العامة “الفوازير”.
ومن ذلك: القصص الفكاهية، أو ما يسميه العوام “الحواديت” المُسلية والمرفهة.
ومن ذلك: “الأمثال الشعبية” التي كثيرًا ما تتضمن أفكارًا أو تعبيرات تبعث على الضحك والمرح.
إلى غير ذلك من الألوان، التي تخترعها الشعوب بوساطة فنانين معروفين أو مجهولين غالبًا، ملائمة لكل بيئة وما يسودها من قيم ومفاهيم، وما تمر به من ظروف وأحوال.
وكل عصر يضيف أشياء جديدة، ويطور الأشياء القديمة، وقد يستغنى عن بعضها.
كما نرى في عصرنا فن “الكاريكاتير” الذي حول النكتة من مجرد كلمة تقال، إلى صورة معبرة، مصحوبة ببعض الكلام، أو غير مصحوبة.
وقد سئلت عن موقف الدين من الضحك والمرح والفكاهة، نظرًا لما يبدو على بعض المتدينين من العبوس والتجهم، فيكادون لا يضحكون، ولا يمزحون، حتى حسب بعض الناس أن هذه هي طبيعة الدين والتدين.
وكان جوابي: أن الضحك من خصائص الإنسان، فالحيوانات لا تضحك؛ لأن الضحك يأتي بعد نوع من الفهم والمعرفة لقول يسمعه، أو موقف يراه، فيضحك منه.
ولهذا قيل: الإنسان حيوان ضاحك، ويصدق القول هنا: أنا أضحك، إذن أنا إنسان.
والإسلام – بوصفه دين الفطرة – لا يتصور منه أن يصادر نزوع الإنسان الفطري إلى الضحك والانبساط، بل هو على عكس يرحب بكل ما يجعل الحياة باسمة طيبة، ويحب للمسلم أن تكون شخصيته متفائلة باشة، ويكره الشخصية المكتئبة المتطيرة، التي لا تنظر إلى الحياة والناس إلا من خلال منظار قاتم أسود.
وأسوة المسلمين في ذلك هو رسول الله – ﷺ -، فقد كان – برغم همومه الكثيرة والمتنوعة – يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويحيا مع أصحابه حياة فطرية عادية، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
يقول زيد بن ثابت، وقد طلب إليه أن يحدثهم عن حال رسول الله – ﷺ – فقال: “كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، قال: فكل هذا أحدثكم عن رسول الله – ﷺ – ؟” (رواه الطبراني بإسناد حسن كما في مجمع الزوائد: 9 /17).
وقد وصفه أصحابه بأنه كان من أفكه الناس (ذكره في كنز العمال برقم – 18400).
وقد رأيناه في بيته – ﷺ – يمازح زوجاته ويداعبهن، ويستمع إلى أقاصيصهن، كما في حديث أم زرع الشهير في صحيح البخاري.
ورأيناه يمزح مع تلك المرأة العجوز التي جاءت تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: “يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز”! فبكت المرأة، حيث أخذت الكلام على ظاهره، فأفهمها: أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالى في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكارًا، عُربًا أترابًا) (الواقعة: 35 – 37، والحديث أخرجه الترمذي في الشمائل، وعبد بن حميد، وابن المنذر والبيهقي وغيرهم، وحسّنه الألباني في: غاية المرام).
وجاء رجل يسأله أن يحمله على بعير، فقال له عليه الصلاة والسلام: “لا أحملك إلا على ولد الناقة”! فقال: يا رسول الله، وماذا أصنع بولد الناقة ؟! – انصرف ذهنه إلى الحُوار الصغير – فقال: “وهل تلد الإبل إلا النوق”؟ (رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح وأخرجه أبو داود أيضًا).
فمشروعية الضحك والمرح والمزاح لا شك فيها في الأصل، ولكنها مقيدة بقيود وشروط لابُدَّ أن تُراعي:
1 – ألا يكون الكذب والاختلاق أداة الإضحاك للناس، كما يفعل بعض الناس في أول إبريل – نيسان – فيما يسمونه “كذبة إبريل.
ولهذا قال – ﷺ – : “ويل للذي يحدث فيكذب، ليُضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له” (رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده).
وقد كان – ﷺ – يمزح ولا يقول إلا حقًا.
2 – ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي.
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (الحجرات: 11).
وجاء في صحيح مسلم: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
وذكرت عائشة أمام النبي – ﷺ – إحدى ضرائرها، فوصفتها بالقصر تعيبها به، فقال: “يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته” قالت: وحكيت له إنسانًا – أي قلدته في حركته أو صوته أو نحو ذلك – فقال: “ما أحب أني حكيت إنسانًا وأن لي كذا وكذا” (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح).
3 – ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم.
فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدثنا أصحاب محمد – ﷺ -، أنهم كانوا يسيرون مع النبي – ﷺ – فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع فقال رسول الله – ﷺ – : “لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا”.
وعن النعمان بن بشير قال: كنا مع رسول الله – ﷺ – في مسير، فخفق رجل على راحلته – أي نعس – فأخذ رجل سهمًا من كنانته فانتبه الرجل، ففزع، فقال رسول الله – ﷺ – : “لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا” (رواه الطبراني في الكبير ورواته ثقات). والسياق يدل على أن الذي فعل ذلك كان يمازحه.
وقد جاء في الحديث الآخر: “لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبًا ولا جادًا”. (رواه الترمذي وحسنه).
4 – ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب.
روى الأصمعي أنه رأى امرأة بالبادية تصلي على سجادتها خاشعة ضارعة فلما فرغت، وقفت أمام المرآة تتجمل وتتزين، فقال لها: أين هذه من تلك ؟
فأنشدت تقول:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهو مني والبطالة جانب
قال: فعرفت أنها امرأة عابدة لها زوج تتجمل له.
وقد عاب الله تعالى على المشركين أنهم كانوا يضحكون عند سماع القرآن وكان أولى بهم أن يبكوا، فقال تعالى: (أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون) (النجم: 59 – 61).
5 – أن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل.
والإسلام يكره الغلو والإسراف في كل شيء، ولو في العبادة، فكيف باللهو والمرح ؟!
ولهذا كان التوجيه النبوي: “ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب” فالمنهي عنه هو الإكثار والمبالغة.
وقد ورد عن عليّ رضي الله عنه قوله: ” أعط الكلام من المزح، بمقدار ما تعطي الطعام من الملح “.
وهو قول حكيم، يدل على عدم الاستغناء عن المزح، كما يدل على ضرر الإفراط فيه.
وخير الأمور هو الوسط دائمًا، وهو نهج الإسلام وخصيصته الكبرى ومناط فضل أمته على غيرها .