تناول الدكتور محمد البهى عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر الأمر بالتفصيل:

الموضوع يتضمن أمرين:
الأمر الأول: تناول الرِّشوة، وإعطاؤها لموظَّف عام.
الأمر الثاني: موقف المتعامِلين مع الموظف المرتَشِي: هل يقاطِعونه كوسيلة لردِّه عن الرشوة، أم يتركونه وشأنه اعتمادًا على أن تناوله الرِّشوة يقع وزرها عليه وحده؟

التعامل بالرشوة وإعطاءها لموظف عام:

الآية صريحة في تحريم الرشوة، سواء في تقديمها أو أخذها.

وهذه الآية هي قوله تعالى: (ولَا تَأْكُلوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمونَ) (البقرة: 188).
فهي تحرِّم:
(1) استخدام المال الخاصّ أو المال العام لإفساد الآخرين من أصحاب السلطة.
(2) أو من أجل غُنْم بعض المكاسب المادِّية تحت ظل القانون؛ لأن وظيفة المال وظيفة اجتماعية أي لصالح المجتمع والكلِّ، وليس لإفساده أو إفساد بعض أفراده. ومن هنا أجاز الإسلام سحب الأموال الخاصة التي يستخدمها أربابها ضد مصالح المجتمع، وتحويلها إلى أموال عامة على أن يُعطَى منها أربابُها نفقاتِ معيشتهم، دون أن يُساء إليهم بالقول، فضلاً عن أن يُساء إليهم بالفعل؛ لأنَّ قضيتَهم هي قضية تصرف خطأ في مال منفعته للجميع. وذلك هو ما يقوله الله تعالى: (ولاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوالَكُمُ التِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا. وارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ وقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعروفًا) (النساء: 5).
فقد نسبت الآية أموال السُّفهاء إلى المؤمنين وعبَّرت عنها بـ”أموالكم” مما يُفيد أن المال في الأمة وإن كانت ملكيّتُه خاصّة فوظيفته عامّة، ومنفعته للجميع، بدليل قول الآية بعد التعبير بـ (أَمْوالكُمُ التِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيامًا) (النساء: 5).. فوصفت الأموال المنسوبة إلى المؤمنين جميعًا ـ وفي حقيقتها هي مِلْك خاصٌّ ـ بأنَّ فيها قِوامَ الجميع ومعاشهم.

والرِّشوة لصاحب السُّلطة في الوظيفة العامة هي إفساد له ـ فالمُعطي لها كالقابِل إيّاها، شارك في الفساد. وفساد الموظَّف في وظيفته العامّة لا يقف عند شخصية، إنما يمسُّ المصلحة العامة كلها، وهي مصلحة الناس جميعًا فإذا أعطيت الرِّشوة بُغية الحصول على بعض المكاسب المادِّيّة في ظل القانون أو باسمه فإنها عندئذٍ تكون قد ارتبطت بكسْب حرام، هو في واقع أمره سرقة مُقنِعَة من الآخرين معه في المجتمع.

وإذن كذلك مَن أعطي الرِّشوة لهذا الغرَض، ومَن قبلها لتحقيق هذا الغرض، يكون قد انحرف في وظيفة المال، مع علمه بهذا الانحراف. (وتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وأَنْتُمْ تَعْلَمونَ) (البقرة: 188).

موقِف المتعامِلين مع الموظَّف المرتشي:

أمّا عن موقِف المتعامِلين مع الموظَّف المرتشي ـ وقد اتضح أن الرِّشوة منكَر وحرام فالحديث الشريف القائل: “مَن رأى منكم منكَرًا فلْيُغَيِّرْه بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلْبِه وذلك أضعفُ الإيمان” يحدِّد هذا الموقف. أدنى المواقف التي ذكرها الإنكار بالقَلْب. ومعنى الإنكار بالقلب عدم التودُّد إليه، أو الابتعاد عنه.
ولا يغيِّر المواقف التي حدَّدها هذا الحديث القول بأنَّ الوِزْر على المخطئ وحده، وهو الذي يتحمّل نتيجة خطأه. وهذا لا يؤثّر على علاقة المتعاملين معه.

نعم.. جريمة الرِّشوة ليستْ جريمة شخصية، وإنَّما هي جريمة اجتماعيّة؛ لأنَّها لا ترتبط بمنفعة المال العامة. ومن شأنها أن تؤثر في توجيه الموظف. وعلى استقامة توجيه المال وتوجيه الموظف في الدولة يتوقف بقاء نظام المجتمع متماسكًا. وإذن الوزر في جريمة الرِّشوة يتعدَّى المُعطي والقابل، إلى المتودِّد للمرتشي نفسه.

هذه هي نظرة الإسلام ـ فيما أرى ـ إلى جرائم المال. ولكنها مشروطة بحُسن توزيع المال في المجتمع، وبحُسن رعاية بيت المال لأفراده.