يضبط هذه المسألة الأمور التالية:
أولا : هل مجرد الذهاب للكنائس دون اعتقاد أهلها محرم؟ لم يقل أحد بهذا بل الثابت أنه تجوز فيها الصلاة مع احتياط البعض بأن لا نستقبل أصنامهم.
ثانيا: هل المشاركة تعني الرضا بما يفعلون؟ الظاهر وليس لنا غيره أن من ذهب لم يرض بعقيدتهم، وإنما ذهب فقط للتهنئة بعيد هم فقط يعتقدون فيه ما يعتقدون.
ثالثا: مع إجازة البعض التهنئة وإجازة الجمهور دخول الكنائس أليس من الجمع بينهما أن نقول بجواز الذهاب لهم لتهنئتهم، خاصة وأنهم يهنئون المسلمين.
رابعا: هل جميع المسلمون ذهبوا أم فئة فقط، وفئة لا نشك في قوة إيمانها من حيث الظاهر لنا -وليس لنا في الحكم غيره- فليس إذا في الأمر فتنة.
خامسا : الأولى أن نبحث عن عوام الناس الذين يذهبون للتبرك هؤلاء فعلا من نخشى عليهم لضعف عقيدتهم، وطغيان حياتهم، وانفلات تربيتهم.
سادسا: ما الجدوى من إثارة مشكلة لأن فلانا ذهب للكنيسة أو لم يذهب ألا يترتب على ذلك فتنة أكبر لدى عوام المسلمين خاصة وإن كان من ذهب داعية مؤثر.
حكم المشاركة في أعياد غير المسلمين
يقول الدكتور رجب أبو مليح: احتدم النزاع واشتد في فترة حول ما قام به أحد الدعاة من المشاركة في الاحتفال بأعياد المسيحيين، والذهاب إليهم في الكنيسة لتقديم التهنئة بهذه المناسبة، وهي الاحتفال بميلاد المسيح عليه السلام .
ونحن نريد أن نبحث عن الحكم الفقهي لهذا التصرف بصرف النظر عمن قام به، فالذي يهمنا هو الفعل نفسه وما يحيط به من ملابسات وشبهات.
-تحرير محل النزاع:
قبل الخوض في البحث عن الحكم الفقهي لا بد أن نحرر موطن النزاع، حتى يسهل علينا البحث عن الحكم؛ ففي كثير من قضايانا نختلف ونعترض، ونشجب ونستنكر، وندين ونحتد، وربما يصل الأمر إلى العراك دون أن نعرف شيئا عما نختلف؟ أو هل نحن مختلفون أصلا أم غير مختلفين؟
فنحن لا نتحدث هنا عن التهنئة فقد قال العلماء فيها كلمتهم، صحيح أن الخلاف حولها لم يحسم ولكن تمت معالجته في أكثر من فتوى فردية وجماعية يمكن مطالعتها في أماكنها.
ولا نتحدث أيضا عمن يذهب إلى هذه الأعياد فيشارك أصحابها فيما هو محرم علينا في شريعتنا كأن يصلي صلاتهم، أو يقدس الصليب والصلب، أو يأكل أو يشرب ما حرمه الله تعالى.
كما لا نتحدث عن مشاركة غير المسلمين في أفراحهم وأتراحهم الشخصية كالزواج والوفاة وغيرها فهذه واجبات اجتماعية الضابط فيها قول الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) النساء :86
كما أننا لا نتحدث عن احتفالات غير المسلمين المحاربين ؛ فهؤلاء محاربون نهى الله عن البر بهم والإحسان إليهم بقوله تعالى (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الممتحنة : 6)
لكننا نتحدث هنا تحديدا عن الذهاب إلى غير المسلمين في أعيادهم الدينية لتقديم التهنئة إليهم في أماكن هذا الاحتفال دون المشاركة في الصلوات ولا تقديس الصليب ولا تناول شيئا من طعامهم محرم بالإجماع في شريعتنا .
ما الفائدة من مشاركة النصارى في أعيادهم
يمكننا مناقشة هذه المسألة في ضوء النقاط العشر التالية:
أولا : هذه التهنئة نوع من البر الذي قال الله تعالى فيه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة : 8-9
وبالتالي قد أجاز لنا الشرع نكاح نسائهم، وأكل طعامهم ـ الجائز في شريعتنا ـ والبر والإقساط إليهم في كل شيء.
ثانيا : رد التحية بمثلها أو أفضل منها عملا بقول الله تعالى:(وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) النساء :86
ثالثا : نحن أولى بجميع الأنبياء من أتباعهم.
فهذه الاحتفالات المقامة بمناسبة ميلاد المسيح نحن أولى بها، فقد تحدث القرآن الكريم عن عيسى وأمه كثيرا، ورد عنها شائعات اليهود الكاذبين الذين وصفوها وهي الطاهرة العفيفة العذراء، بالزنى ورموها ورموه بأحط الأوصاف وعندنا سورة في كتاب الله تسمى سورة مريم !!
وقد ذهب الرسول ﷺ إلى المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى وأتباعه من فرعون الطاغية، فقال نحن أولى بموسى منهم.
رابعا: أن هذه الأشياء إذا أردنا تكييفها الفقهي الصحيح فهي تدخل في باب العادات فليست من باب العقائد، لأنه لا يتصور ممن يذهب إلى الكنيسة لهذا الغرض أن يغير دينه أو يشك في معتقده، وإن فعل هذا فهو لا يدخل فيما نتحدث عنه الآن، وحكمه معروف في الشرع، ولا يحتاج لنقاش أو جدال.
والأصل في العادات الجواز ما لم تخالف أصلا من الأصول المجمع عليها، أو تحل حراما أو تحرم حلالا، والذي يذهب إلى الكنيسة بهذا الغرض فقط، وهو تهنئة النصارى بعيدهم ثم ينصرف دون أن يفعل شيئا محرما فلا نستطيع أن نحرم تصرفه أو نجرمه .
خامسا: الذهاب إليهم في هذه المناسبة يعبر عن سماحة الإسلام، وعن احترامه لمن يخالفه في الرأي، مادام هذا المسلم لم يداهن، ولم يجامل، ولكنه يصدع بكلمة الحق، ولسان حاله يقول لكم دينكم ولي دين.
سادسا: الذهاب إلى مثل هذه الأماكن من الممكن أن يتحول لو خلصت النيات، وسلم القصد إلى نوع من التعاون على البر والتقوى، فيمكننا التعاون معهم مثلا في حل مشكلاتنا الداخلية كالتعاون على رفع الظلم والاستبداد، ومحاربة الفقر والبطالة والمخدرات، وغير ذلك الكثير من مشكلاتنا التي تحتاج إلى تضافر الجهود، وقوة العزم، وحسن القصد وسلامة النيات في خدمة الوطن الذي نعيش فيه معا.
سابعا: إن هذه الزيارات تمنع كثيرا من الفتن والدماء، وفي باب الموازنات يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر، فربما تساعد مثل هذه الزيارات لمنع الفتن الطائفية، ولحقن الدماء التي تراق هنا وهناك بغير ذنب إلا التعصب الممقوت البغيض من كلا الطرفين .
ثامنا : أن الرسول ـ ﷺ ـ كان يتعامل مع مشركي مكة على الرغم من الخلاف الذي كان بينهم إلى الحد الذي جعلهم يأتمنونه على أموالهم ، وظلت هذه الأمانات عنده حتى هاجر، وترك عليا خلفه يرد هذه الودائع إلى أهلها، ولم يمنعهم الصراع الذي كان بينهم من أن يأتمنوه على أموالهم، كما لم تحمله ـ ﷺ ـ عداوة بعضهم وطرده والتربص به وبأصحابه أن يرد أماناتهم.
تاسعا : لما ذهب النبي ـ ﷺ ـ إلى المدينة أُمر بالصلاة تجاه المسجد الأقصى ـ قبلة اليهود ـ على الرغم من تعلقه وتعلق أصحابة ببيت الله الحرام فاستجاب النبي ﷺ وأصحابه لأمر الله، وظلوا على ذلك قرابة العام والنصف حتى أمرهم الله بالتحول إلى المسجد الأقصى، وعقد المعاهدات مع اليهود في المدينة، وخالطهم وتعامل معهم فزار مريضهم وواسى فقيرهم حتى أنه كان يقف لجنائزهم ولما تعجب أصحابه من ذلك قال لهم أليست نفسا، ثم بكى على ميتهم وقال نفس تفلتت مني إلى النار!! .
عاشرا : لقد سجل القرآن الكريم فرحة المسلمين بانتصار الروم، وهم أهل كتاب على الفرس عبدة النار في بداية الدعوة حتى يوضح أن ثمة مساحة مشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب يمكن للمخلصين من الفريقين أن يفيد منها ويعظمها (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) الروم 1-5 .
تلك عشرة أسباب ذكرتها في عجالة من أمري يستطيع من يفتش في القرآن الكريم والسنة المطهرة أن يظفر بأكثر منها، ومن أجل هذه الأسباب لا نرى بأسا من الذهاب إلى أهل الكتاب غير المحاربين ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم شريطة ألا نفعل أمرا منكرا ، وشريطة أن نقول لهم بملء أفواهنا نحن مختلفون معكم في عقيدتكم وعباداتكم وغير ذلك … لكننا متفقون معكم على العمل لمصلحة هذا الوطن الذي نعيش على ترابه ونأكل من خيره هذا من حيث الظاهر ونترك النيات لله عز وجل فهو المطلع عليها .
فربما نقدم صورة صحيحة عن الإسلام المعروف بالسماحة والرحمة والمودة لا ما يعتقده أهل الديانات الأخرى دين التعصب والشدة.
هل يجوز الاعتراض على النصارى في احتفالاتهم:
وهذه الشبهة تتحدث عن أن المسلم الذي يذهب إلى هذه المناسبات سيسمع لا محالة ألفاظا وأقوالا، ويرى أفعالا وتصرفات تعارض ما استقرت عليه عقيدتنا، وليس بوسعه أن يعترض أو يصوب أو يصحح؛ لأن المكان ليس مكانه، ولن يسمح له بالاعتراض إن أراد أن يعترض.. .
وهذه شبهة حقيقية نلتمس العذر لمن يطلقها، لكن ألا يحدث مثل هذا في بعض أفراحنا التي يقيمها بعض المسلمين الآن فتشرب الخمور، وتكشف العورات، وترتكب الموبقات؟ ثم لا يصرفنا هذا عن التهنئة والمشاركة في جزء من هذا الحفل، ثم نعتذر ونترك المكان فلا نرى ما حرم الله؟؟؟
ثم إن هؤلاء الناس لا يعملون شيئا منكرا من وجهة نظرهم، فهم يعتقدون في كل ما يفعلون صحيح أننا لا نقرهم عليه، وننكر عليهم، ولكن لكل مقام مقال، والبلاغة مرعاة الكلام لمقتضى الحال، وتأخير البيان أمر وارد في سنة نبينا ﷺ ، وأننا مأمورون أن نصبر على الناس ونعرض عليهم ديننا مرات ومرات حتى يأذن الله لهم بالهداية، ولن يسمع أحد منا إلا إن كانت ثمة أرضية مشتركة من البر والتسامح، وصدق الله تعالى إذ يقول :(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) فصلت: 34 – 35 .
وقال تعالى:(وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ) (العنكبوت: 46 –47 )
ونحن لا نطالب المسلمين جميعا بالذهاب إلى تهنئة النصارى أو مشاركتهم في أعيادهم ، ولكن الأمر يخضع للموازنات، والمصالح المشتركة من ناحية، ومصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الأفراد، ولا مانع من الاختلاف حول هذا الموضوع وغيره، لكن المحزن حقا هو اتهام النيات والمسارعة في التفسيق والتكفير بغير برهان ولا سلطان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة : 286