المجتمع المسلم لا مكان فيه للمتكاسلين والمتواكلين، بل هو مجتمع كله سعي وحركة ونشاط، قال -ﷺ- “لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي الجبل فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
ولكن إذا كان الإسلام قد حض على الكسب فلا بد أن يكون بالطرق المشروعة، وعلى هذا فإن البقشيش أو الإكرامية إذا كانت عن طيب نفس ورضا من صاحبه فلا حرج فيه، وكذا لو جرت العادة والعرف بذلك فلا حرج على المعطي ولا حرج على الآخذ.
يقول فضيلة الدكتور محمد البهي –رحمه الله- :
إذا كان السبب في العطاء القليل الذي نسمِّيه البقشيش أو الإكرامية هو الاستحسان، أي هو التعبير عن رضاء النفس من الخدمة التي تُقَدَّم للإنسان.. فهو في واقع الأمر عطاء في مقابِل.. عطاء مادِّيّ في مقابل معنويّ. ولكنه ليس أجرًا على عمل؛ لأن شرط الأجر على العمل أن يتَّفق عليه.
وعطاء شيء مادّي في مقابل ما يأتي به الآخر مما يسُرُّ النفس ويُريحها أمرٌ مقبول، لا إثم ولا معصية فيه. والعطاء في الوقت نفسه قام على أساس من اختيار المُعطي وعدم الإكراه فيه.
ومثل العطاء للاستحسان العطاء بحكم العادة والعُرف. فالعادة، وخصوصًا التي لا تنطوي على ضَرَر، تُفضّل رعايتها عند التعامل بين أصحاب العُرف الواحد. بل قد تُعتبر شرطًا غير مكتوب لصِحّة المعاملة.
فإذا كان سبب العطاء الاستحسان، والعادة معًا فليستْ هناك شائبة من حرَج، في مساوقة العادة، وفي التعبير عن رضاء النفس.
وصحيحٌ أنه ليس جزءًا مشروطًا أو مكتوبًا في الثمن أو الأجر. ولكن في واقع الأمر قد يكون جزءًا مشروطًا ضِمْنِيًّا في الثمن والأجر، ومقابلة “الاتفاق”، إمّا في اختيار السلعة المُباعَة، أو الخدمة أو العمل المأجور عليه. والإتقان أمر نِسْبِيٌّ في كل شيء حسَب طبيعته، كما أنّه هو ذاته الذي يُثير الاستحسان والرِّضا النفسي، ممّا يحمل الذات على دفع البقشيش.
فإذا كان دفع البقشيش للرِّياء ـ وليس تعبيرًا عن رضا النفس بما قام به الطَّرَف المُعطي ـ فهو حرام؛ لأن الرياء من شأنه أن يُفسِد العمل الطيب. فقراءة القرآن إذا كانت رياء كانت حرامًا. وإنفاق المال من ذوي اليَسار إذا كان رِياء فهو حرام. والعلم من العالم إذا كان رياء فهو حرام.
والعمل الطيِّب في ذاته يُقبل عند الله ممَّن قامَ به، إذا أخلصَ فيه لله، وقصَد به وجه الله وحده. ولذا فكتمان العمل الطيِّب في مباشرته وأدائه، له فضل مزدَوج وعليه جزاء مضاعَف.
الفرق بين الرشوة والبقشيش:
والرِّشوة بعيدة عن “البقشيش” في طبيعتها ودوافعها. فمَن يُعطَى البقشيش ليس صاحب “نفوذ” أو “سلطة” يتحكَّم عن طريقها في قضاء المصالح والحاجِيّات. هو في العادة “متواضِع” يريد أن يفعل ما في وُسْعه لراحة الآخرين في خدمتهم. ثُمَّ في الوقت نفسه ليس “متعيَّنًا” أو ليس هو “وحده” الذي يباشِر الخدمة.
ولكن مَن يأخذ الرِّشوة هو يُمليها في واقع الأمر، بحكم سُلطته ونفوذه وتفرُّده في أداء الواجبات والخدمات للآخرين في مُحيطه. وقد يُمليها في عُنْجُهيّة وغَطْرسة، لإحساسه بالتفرُّد في العمل من جانب، وبحاجة صاحب المصلحة في أداء العمل له من جانب آخر.
ومَن يأخذ البقشيش يُعَبِّر عن شكره لما أخذ. لكنْ قلَّما يَشكُر مَن قَبِل الرِّشوة أو فرضَها مَن تقدَّم إليه بها. فكبرياء سلطته ونفوذه يَحُول دون ذلك. وربَّما إحساسه “بالخطف” واستغلال النفوذ يجعله يتستَّر بعدم إعلان الشكر على جريمته.
ومَن يعطي البقشيش هو راضِ النفس، ولكنْ مَن يُعطي الرِّشوة مُكْرَه عليها، وحاقد على مَن طلبها منه في سبيل ضرورة لديه.