تكاد تتفق كلمة الفقهاء على أن من حق الأب أن يزوج ابنته الصغيرة غير البالغة، وذلك راجع لولايته عليها، فكما هو قائم على مالها، وتوجيهها ، فكذلك هو قائم على ما يراه من مصلحتها في مسألة الزواج.
قال ابن قدامة في المغني :
ليس لغير الأب إجبار كبيرة ، ولا تزويج صغيرة ، جدا كان أو غيره . وبهذا قال مالك ، وأبو عبيد والثوري ، وابن أبي ليلى . وبه قال الشافعي إلا في الجد ، فإنه جعله كالأب ; لأن ولايته ولاية إيلاد ، فملك إجبارها كالأب .
وقال الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، وقتادة ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة : لغير الأب تزويج الصغيرة ، ولها الخيار إذا بلغت . وقال هؤلاء غير أبي حنيفة : إذا زوج الصغيرين غير الأب ، فلهما الخيار إذا بلغا .انتهى.
ومن المهم أن نفهم أن تزويج الأب لابنته الصغيرة ليس واجبا، ولكنه مقيد بالمصلحة، أي أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، والله حسيبه على ذلك.
وقد تتصور المصلحة مثلا بأن لا يكون للبنت من بعد الأب أخ مثلا فيخشى عليها أبوها من بعده فيزوجها لرجل من أهل الصلاح.
سن الزواج بين الماضي والحاضر:
-لا ننسى أن البنت قديما ما كان يتصور، ولا ينتظر لها سوى الزواج، فلم تكن رهن كلية ولا مدرسة تنتظر التخرج فيها، فإذا اكتملت أنوثتها ونضجت فعلام الانتظار؟
-ولا ننسى كذلك أن الثقافة وقتها كانت محدودة، فقد كان بمقدورها أن تحيط بها في سن صغيرة، ولم يكن الحال كما هو عليه الآن من أن الولد ذكرا، أو أنثى يظل يتعثر في القراءة والكتابة حتى يجاوز العاشرة.
-ففي الوقت الذي نرى فيه أولادنا الآن في عداد الأميين وهم قيد المدارس حتى العاشرة فإن الولد ساعتها ذكرا كان أو أنثى كان يتم حفظ القرآن قبل أن يجاوز التاسعة، ويحفظ من شعر العرب ونثرهم ما يكون ثقافة يفتقدها رجال اليوم فضلا عن أطفالهم .
-ومن المهم كذلك أن نعرف أن الفقهاء وإن أجازوا تزويج الصغيرة فإنهم منعوا زوجها أن يطأها حتى تطيق الوطء ، وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات.
وقد ذكر القرآن الكريم عدة الزوجة التي لم تحض بعد حينما قال : ” وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق/4] دون أن يتعقب ذلك بالإنكار، فيؤخذ من الآية جواز نكاح البنت قبل البلوغ، والقرآن ليس مثل كتب الفقه التي تفرع الأحكام وتذكر ما يترتب عليها من آثار حتى لو كانت ممنوعة في نفسها، وقد صح أن النبي ﷺ عقد على عائشة وهي بنت ست سنين إلا أنه لم يدخل بها إلا وهي بنت تسع سنين، رواه البخاري.
وعلى هذا ، فالأمر ثابت في الكتاب والسنة، وليس اجتهادا بشريا حتى يتهم بالاجتهاد الذكوري!!!
هل يجوز تزويج البنات قبل الثامنة عشر:
إن قطاعا من النساء في عصرنا يتنكر لاجتهادات الفقهاء بتهمة أن ذكوريتهم تحملهم على الاجتهاد لصالحهم ضد النساء، ويبدو أن من يسوق لهذه الفكرة يستحضرن في أذهانهن صورة أب أو شيخ مسجد كان يلجأ إلى الدين حينما يكون في صفه ويرغب عنه حينما لا يكون كذلك على نحو ما حكى الله تعالى : ” وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور/49] مع أن تاريخ الاجتهاد الفقهي زاخر بما يبدد هذا الهوس، وليس هذا موضع بسطه.
والمقصود ماذا يمكن أن يقول أصحاب الشبهات في هذا النص القرآني وفي زواج الرسول بعائشة رضي الله عنها!!!
نتصور أنهن ربما استندن إلى تخوفات ووقائع استبد فيها الأب بهذه الصلاحية فزوج ابنته الصغيرة لرجل طاعن في السن لتحقيق مصلحة شخصية له لا لها ، وزاد الطين بلة أن هذا الزوج الطاعن في السن لم يتقيد بما شرطه الفقهاء من امتناع وطئها حتى تطيق ذلك. وقد أشفق على البنت الصغيرة ويشفق عليها غيرنا أن يوضع مستقبلها في يد أب ربما قدم مصلحته على مصلحتها،لكن هل يكون الحل في تشريع قانون يمنع البنت من الزواج قبل سن الثامنة عشرة مثلا كما ينادي أصحاب الشبهات دائما؟
إذا كان من يريدون ذلك يبحثون حقا عن المصلحة العامة فلماذا لم يكتفوا بسن البلوغ؟ وهل يقول الأطباء : إن وطء البالغة مضر بها؟
يبدو أن الأمر أكبر من ذلك؛ فإنهم ينادون أيضا بأن يظل الولد والفتاة في حكم الطفولة حتى هذه السن ( الثامنة عشرة) وأن لا يطالهم قانون الجنايات قبل هذه السن مهما كانت جنايتهم، وهذا النداء مناقض للإسلام كله وليس لمجرد حكم فقهي؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى يكلف الناس منذ لحظة البلوغ، فهل يعقل أن يكون الولد مكلفا بتكليف الله أمام أهم مصير في دنياه وآخرته ( الجنة والنار ، الإسلام والكفر) ولا يكلف بجرم يرتكبه في الدنيا!! هل هؤلاء أشفق بالناس من خالقهم – حاشاه وحاشاهم-.
ولندع النيات إلى رب القلوب برغم تكشفها بالأمارات الظاهرة، أفلا تقتضي النظرة الموضوعية إلى استقراء ورصد لعدد الحالات التي قدم فيها الأب مصلحته على مصلحة ابنته لنرى هل تمثل هذه الحالات ظاهرة يحتاج معها إلى قانون ملزم؟
وتكمن أهمية هذا الاستقراء في أننا إذا شرعنا قانونا ملزما بمنع الزواج قبل سن معينة، فإن هناك من سيستضر به لا محالة ، هناك البنت التي لا تنتظر التخرج من جامعة لأنها لا تدرس أصلا، وهناك من اختصرت الطريق فاكتفت بالتعليم المتوسط وربما فاتتها فرصة زواج أثناء دراستها بسبب هذا القانون؟
-من سيتحمل إثم الفتاة الذي ستصرف شهوتها في الحرام؛ لأنها ستمنع من الزواج قبل سن القانون؟
-من يتحمل إثم الزيجات العرفية بأنواعها التي ليست إلا تفاهما على الزنا بين الشاب والفتاة؟
-وتجريم الزواج قبل سن معينة سبب من الأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة…..
نحتاج رصدا قويا للآثار المترتبة على المنع وللأخرى المترتبة على الإباحة حتى نوازن بين المصالح والمفاسد، لنتمكن من الحل المناسب، بعيدا عن التفكير النسوي والتفكير الذكوري، ولغة الرصد هي لغة الأرقام ، والأرقام لا تجامل جنسا على حساب الآخر.
ونرى أنه من المهم أن أنقل هنا رأي فقيه طبيب في المسألة، لعلنا نقبس منه قبسا يبدد لنا شيئا من الأوهام القابعة في الأذهان باسم الحقائق.
حكم زواج الصغير قبل البلوغ:
جاء في الموسوعة الطبية الفقهية للدكتور أحمد محمد كنعان (رئيس قسم الأمراض المعدية بإدارة الرعاية الصحية الأولية بالمنطقة الشرقية في السعودية:-
يجوز للصغير قبل البلوغ أن يتزوج ، سواء كان ذكراً أو أنثى ، ويباشر وليه العقد ويزوجه ، ولا يصح من الزوج الصغير طلاق زوجته سواء كان مميزاً أو غير مميز ، إلا عند الحنابلة فقد أجازوا منه الطلاق إن كان مميزاً يعقل معنى الطلاق .. وتحسب عدة الصغيرة التي لم تحض بثلاثة شهور عملاً بقوله تعالى : (( واللائي يئسْنَ منَ المحيضِ من نسَائِكُمْ إِنْ ارتبتُم فعدَّتُهُنَّ ثلاثـةُ أشهرٍ واللائي لم يحضْنَ )) سورة الطلاق 4
ولا يخفى بأن زواج الصغار لا يخلو من محاذير صحية ، لأن أجهزتهم التناسلية لا تكون مهيأة للجماع بعد ، كما أن الصغار لا يكونون مهيئين نفسياً لممارسة الجنس ، وبخاصة البنت الصغيرة التي يغلب أن تتضرر جسدياً ولاسيما إذا كان زوجها رجلاً كبيراً ! فقد يسبب جماعها مضاعفات نفسية وجسدية سيئة ترافقها طوال حياتها وتؤثر في مستقبلها الجنسي !
ولهذا ذهب الفقهاء إلى أن الزوجة الصغيرة التي لا تحتمل الوطء لا تُسلَّم إلى زوجها حتى تكبر وتصبح في سـن تتحمل فيه الوطء ، حتى وإن كان الزوج عاقلاً أميناً وتعهد ألا يقربها ، لأن هيجان الشهوة فيه قد يحمله على وطئها فيؤذيها ، ورأى الحنابلة أنها إذا بلغت تسـع سنين دفعـت إلى زوجهـا ، لما ثبت في الصحيح من أن النبي ﷺ ( بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين )
ولكن إذا خافت البنت على نفسها فلها أن تمنعه من جماعها ، ويستمتع بها كما يستمتع بالحائض ، وذلك حتى تكبـر وتتهيأ للجماع ..
ونحن بدورنا ننصح من الوجهة الطبية بعدم الزواج قبل البلوغ على أقل تقدير؛ لأن البلوغ مؤشر فطري يدل على أن الجسم أصبح مهيأً لممارسة الجنس ، كما أن الإنسان بالبلوغ يصل إلى درجة مقبولة من الوعي الاجتماعي الذي يساعده على تكوين الأسرة ..
علماً بأن معظم القوانين المعمول بها في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية تمنع الزواجَ قبل سِنِّ الرُّشْدِ ، أو سنِّ ثماني عشرة سنة.