حكم الوسائل التي يسجل عليها القرآن له وجهان : إما أنها ليست بقرآن فلا شيء في مسها بالنظر إلى مدلولات الألفاظ ، أو أنها تعتبر قرآنا لها حكم المصحف بالنظر في المسألة إلى حكمتها وسرها ، كما أن العرف يسمي ما في هذه الوسائل قرآنًا، وتحريم مس المصحف على المُحْدِثِ لا ينهض عليه دليل من الكتاب ولا من السنة، ومع وجوب احترام القرآن فحمل المحدث له لا ينافي الاحترام .
وسئل الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-عما يترتب على وضع القرآن في اسطوانات:
أما حكم حمل ومس الإسطوانات أو الألواح التي بها تتأدى القراءة على الاعتقاد بحرمة حمل المصحف أو مسه على المحدث ، وهو من يحتاج في صحة صلاته إلى الوضوء أو الغسل ، ففيه وجهان :
( أحدهما ) : أن يقال إن إسطوانة الفونغراف (جهاز تشغيل الصوتيات) ، أو لوحه الذي ينشأ عن قرع الإبرة له الصوت المشتمل على الكلام ليس قرآنًا مكتوبًا ؛ إذ لا يرى الناظر فيه شيئًا من كلمات القرآن ولا حروفه ، فلا يتناوله الضمير في قوله تعالى : [ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ]( الواقعة : 79 ) ، الراجع إلى قوله : [ كِتَابٍ مَّكْنُون ]( الواقعة : 78 ) بناءً على أن المراد بالكتاب : القرآن ، وهو وجه ضعيف في التفسير؛ لأنه ليس بكتاب، وهذا الوجه ظاهر على طريقة الفقهاء الذين ينظرون في استنباط الأحكام إلى مدلولات الألفاظ في الغالب.
( والوجه الثاني ) : أن ينظر في المسألة إلى حكمتها وسرها ، فيبني الحكم على ذلك ، وبيان ذلك : أن تلك النقوش التي تسمى كتابًا ما كان لها حكم الكلام ؛ إلا لأنها وسيلة للعارف بها إلى أدائه ونقله ، وكذلك إسطوانات الفونغراف أو ألواحه وسيلة إلى ذلك، فإذا كانت الألواح والصحف المكتوب فيها القرآن كله أو بعضه محترمة ؛ لأنها وسيلة إلى أدائه ، فلماذا لا تكون ألواح الفونغراف وإسطواناته محترمة كذلك ؟
ولصاحب هذا الوجه أن ينقض الوجه الأول بأن العرف يسمي ما في هذه الإسطوانات والألواح قرآنًا ؛ إذ يقال : إن هذا اللوح فيه سورة كذا أو قوله تعالى كذا .
وإذا نظرنا في الكتابة نظر الفيلسوف ، نرى أن النقوش الدقيقة التي في ألواح الفونغراف أجدر من النقوش الكتابية بأن تسمى كلامًا ؛ ذلك بأنها كتابة طبيعية حدثت من تموج الهواء بالقراءة اللفظية بواسطة الإبرة المعروفة ، وهي تعيد الكلام كما بدأه القارئ لا تخطئ .
وأما الكتابة الخطية المعروفة فهي كتابة اصطلاحية ، لا تؤدي الكلام بطبعها ، بل بالمواضعة والاصطلاح ، وقد يقع الخطأ فيها من الكاتب ، فلا يؤدي ما أُملِي عليه كما هو ، ومن القارئ فلا يؤدي ما كُتِب على وجهه ، وإن كان عارفًا بالكتابة ، بل المتلقي القراءة لا يضبطها كما هي ؛ لذلك قال بعض علماء الأصول : إن تواتر القرآن خاص فيما ليس من قبيل الأداء ، فإننا لا نقطع بأن أداءنا لهذا القرآن المتواتر كأداء النبي – ﷺ – ولو كان في عهده فونغراف حفظت به قراءته ، لقطعنا بذلك ، ولعدَّ الأداء أيضًا متواترًا .
هذا ، وإن تحريم مس المصحف على المُحْدِثِ لا ينهض عليه دليل من الكتاب ولا من السنة، ولكن بعضهم ادَّعى الإجماع على حرمة مسه للجنب ، ولا تسلم له هذه الدعوى ، والخلاف في غير المتوضئ أقوى، نعم إن احترام القرآن واجب قطعًا ، وإهانته من كبائر المحظورات ، بل من الكفر الصريح إذا كانت عن عمد، ولكن حمل المحدث له لا ينافي الاحترام ، ولا يستلزم الإهانة ، فرب محدث يحمل القرآن وهو له أشد احترامًا ، ورب متوضئ يحمله وهو مقصر في احترامه .