اختلف الفقهاء في مقدار السفر الذي يوجب الرخص للمسلم المسافر، ومنها: الفطر في الصيام، ومتى يفطر: من مجاوزة عمران البلد، أم من منزل المسافر نفسه؟ وهل يفطر وإن كان قد نوى الصيام وسافر بعد الفجر؟.
والمشهور في فقه المذاهب الآن أن مسافة السفر نحو (80، أو 90) كيلو مترًا. وأنه لا يفطر حتى يجاوز مساكن البلدة.
ولكن ابن القيم يقول في (زاد المعاد): (ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد، ولا صح عنه في ذلك شيء، وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبي في سفر ثلاثة أميال، وقال لمن صام: قد رغبوا عن هدى محمد صلى الله عليه وسلم (أخرجه أبو داود -2413، وفي سنده منصور بن سعيد الكلبي راويه عن دحية وهو مجهول).
وكان الصحابة حين ينشئون السفر، يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، كما قال عبيد بن جبر: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت ؟ قال أبو بصرة :أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟رواه أبو داود وأحمد (أخرجه أبو داود -2412 في الصوم: باب متى يفطر المسافر إذا خرج، وأحمد -6 / 398، والبيهقي -346/4، وفي سنده كليب بن ذهل الحضرمي وهو مجهول، وباقي رجاله ثقات، ويشهد له حديث أنس الآتي فيتقوى به).
ولفظ أحمد: ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة، فلما دنونا من مرساها، أمر بسفرته، فقربت ثم دعاني إلى الغذاء، وذلك في رمضان، فقلت: يا أبا بصرة، والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت: لا قال: فكل. قال: فلم نزل مفطرين حتى بلغنا.
وقال محمد بن كعب: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته وقد لبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة، ثم ركب (أخرجه الترمذي-799 و 800 في الصوم: باب من أكل ثم خرج يريد سفرًا، والدارقطني -2 / 187، 188 والبيهقي -246/4، وإسناده قوي، وحسنه الترمذي وغير واحد، ويشهد له حديث أبي بصرة المتقدم وحديث دحية بن خليفة عند أبي داود وأحمد وقد تقدم أيضًا، وهو حسن في الشواهد). قال الترمذي: حديث حسن) (زاد المعاد، ط. مؤسسة الرسالة -2 / 55، 56).ا هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه في (الفتاوي):.
(وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه، ويفطر، فمذهب مالك والشافعي وأحمد: أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، وهو ستة عشر فرسخًا، كما بين مكة وعسفان ومكة وجدة، وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام. وقال طائفة من السلف والخلف: بل يقصر ويفطر في أقل من يومين، وهذا قول قوي، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعرفة، ومزدلفة، ومنى، يقصر الصلاة، وخلفه أهل مكة وغيرهم يصلون بصلاته، لم يأمر أحدًا منهم بإتمام الصلاة.
وإذا سافر في أثناء يوم، فهل يجوز له الفطر؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
أظهرهما: أنه يجوز ذلك، كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء فأفطر، والناس ينظرون إليه.
وأما اليوم الثاني: فيفطر فيه بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين في مذهب جمهور الأئمة والأمة.
وأما إذا قدم المسافر في أثناء يوم، ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء، لكن عليه القضاء سواء أمسك أو لم يمسك.
ويفطر من عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر الجلاب الذي يجلب الطعام، وغيره من السلع، وكالمكاري الذي يكري دوابه من الجلاب، وغيرهم، وكالبريد الذي يسافر في مصالح المسلمين، ونحوهم.. وكذلك الملاح الذي له مكان في البر يسكنه.
فأما من كان معه في السفينة امرأته، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرًا فهذا لا يقصر ولا يفطر….) (فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -25 / 211 – 213).ا.هـ.