الإصلاح بين الناس من أجل الأعمال وأشرفها لذا أجاز الشارع التعريض في ذلك.
وهذا ما ورد في كتاب “الضوابط المنهجية للمداراة”للأستاذة ساجدة حلمي سمارة جاء فيه:
“إن من أهداف المداراة للناس ومقاصدها الأساسية الإصلاح لهم، والإصلاح فيما بينهم وقد حثت الشريعة الإسلامية على هذا الأمر وأدته، وجاءت في نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة لتدفع المؤمنين إلى هذا العمل الجليل:
-قال تعالى: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).
ولا خير في كثير من أعمال الناس وأقوالهم ومناجاتهم لبعضهم إذا لم يصحبوا نية الصلاح والإصلاح والبر فيما بينهم:
-قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس).
-والله تعالى يحفظ للمصلحين جهودهم وسعيهم: (إنا لا نضيع أجر المصلحين).
ولن يهلك الأفراد ولا المجتمعات من أهل الإصلاح ما داموا كذلك:
-قال تعالى: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)
وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين البر والتقوى والإصلاح بين الناس في آية واحدة، وأن هذه الصفات جميعًا تمثل العناصر الأساسية للشخصية الإسلامية.
فضل إصلاح ذات البين:
-يقول الله تعالى: (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس).
كما أمر الرب سبحانه عباده المؤمنين بأن يصلحوا ذات بينهم كما أمرهم بالتقوى سواء بسواء.
-فقال سبحانه: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم).
كما حث سبحانه وتعالى بوجه أخص على العناية بأخوة الإيمان، وحياطتها وصيانتها والحفاظ عليها من خلال الإصلاح بين المؤمنين وإزالة ما يشين هذا البهاء الإيماني ـ بهاء الأخوة في الله ـ من خصومات ومنازعات، واختلافات.
-فيقول جل جلاله: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم).
-وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصداقة؟
قالوا: بلي يا رسول الله
قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة”
فإذا وقعت مخاصمة أو مهاجرة بين مسلمين لسبب من الأسباب وجب على المصلحين أن يوفقوا بينهما، ويداروا ويترفقوا في ذلك لكي يعود الصفاء بينهما من جديد وهذا الإصلاح، وهذه المداراة لأخلاق المتشاحنين للوصول إلى هذه الغاية الكريمة عدها الإمام محمد بن كعب القرطبي جهادًا، فإنه يقول: من أصلح بين قوم فهو كالمجاهد في سبيل الله”
روي عن أبي الدرداء أنه قال: “أَلَا أَدُلُّكُم على أَفْضَلَ من درجةِ الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ ؟ قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ . قال : إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ . لا أقولُ : إنها تَحْلِقُ الشَّعْرَ ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ”
الستر في الإصلاح بين الناس:
من المداراة أيضًا التجمل للناس في المنطق، وحسن الحديث معهم والبعد عن العبارات الجارحة حتى مع العصاة (فالتوبيخ والتعبير بالذنب مذموم وقد نهى النبي ـ ﷺ ـ أن تثرب الأمة الزانية، مع أمره بجلدها، فتجلد حدًا، ولا تعير بالذنب ولا توبخ به).
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ ” إذا زنت الأمة وتبين زناها فليجلدها ولا يثرب”.
فلا يصح تعييرها ولا تقريعها بالزنى بعد إقامة الحد عليها.
فهناك تلازم بين الإصلاح والرفق، والرفق صورة من صور المدارات والتلطف، والله سبحانه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
وهذا جانب من جوانب مقاصد المداراة وأهدافها فالقصد من هذه المداراة الخلقية ـ في إصلاح العوج، وسد الخلل، وبيان الصواب ـ القيام بواجب الإصلاح من غير أذى؛ لذا وجب على المصلحين أن يضعوا نصب أعينهم كلام الإمام العالم الزاهد الفضيل بن عياض الذي يقول فيه: ” المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير” فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان، وكان يقول ” من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره” أو بهذا المعنى.
-وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سرًا فيما بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها.وأما الإشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله.
-قال الله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم).
والأحاديث في فضل الستر كثيرة جدًا، منها ما أخرجه الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ـ ﷺ ـ: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة”.
أقوال العلماء فيمن يصلح بين الناس:
قال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف:
“اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام، وأحق شيء بالستر العورة”.
(فلهذا كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار، لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد، ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبديه، ومقصوده: تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساوئه للناس؛ ليدخل عليه الضرر في الدنيا).
وأما الناصح فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له وبذلك وصف الله تعالى رسوله ـ ﷺ ـ فقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
(ووصف المؤمنين: بالصبر والتواصي والمرحمة).
(أما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القسوة والغلظة، ومحبته إيذاء أخيه المؤمن، وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزين لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا).
(شتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة).
ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول في هذا المعنى:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تغضب إذا لم تعط طاعة
وقد بلغت عناية الشريعة في الحث على استصحاب خلق المداراة والتلطف في إصلاح ذات البين وإزالة الضغائن والأحقاد والترسبات من القلوب أن أجازت الشريعة الكذب لغايات الإصلاح وإزالة الخصومات، مع أن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولكن حرص هذه الشريعة الغراء على الرحمة بالناس ووحدة صفهم، وسلامة صدورهم أخذت بأخف الضررين، وأهون المفسدتين إذ البغضاء هي الحالقة التي تحلق الدين.
-وقد أخرج البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: سمعت رسول الله ـ ﷺ ـ يقول: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا”.
-وفي رواية أخرى في الصحيح للإمام مسلم: “لم نسمعه ـ ﷺ ـ يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها”.
وهذا الحديث من البيان والوضوح، بمكان فإنه يكشف عن أهمية خلق المداراة للخلق لإزالة ما في نفوسهم من الكدر والغيظ على بعضهم بنية الإصلاح والتوفيق.
وهذا هو فقه الموازنات، وفقه الأولويات الذي لا يدرك أغواره إلا كل مؤمن عالم بصير مجتهد في الإصلاح.
فليس المصلح الخبير الذي يعرف الخير من الشر، وإنما هو الذي يدرك أفضل الخيرين ويتقي شر الضررين.
وقد بلغ من مداراة أنس بن مالك لإخوانه وإصلاح نفسه لهم ما حكاه ثابت البناني فقال: “إن أنسًا كان إذا أصبح أدهن يده بدهن طيب؛ لمصافحة إخوانه”.
وهذا الأدب في مراعاة الإخوان، ومداراة مشاعرهم قد تعلمه الصحابة وأجيال المسلمين من بعدهم من توجيهات رسولهم الكريم، ومن ذلك نهيه ـ ﷺ ـ عن أكل الثوم أو البصل ثم الحضور إلى صلاة الجماعة لما في ذلك من الأذى للمسلمين بسبب الرائحة الكريهة.
خطب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوم الجمعة فقال في خطبته: “ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ما أراهما إلا خبيثتين البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله ـ ﷺ ـ إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع فمن أكلهما فليمتهما طبخاً.
وقد أفاد هذا التوجيه النبوي الكريم في جملة ما أفاد حرص الإسلام على تألف الناس وإصلاح ما بينهم وتحملهم لبعضهم، ومداراة بعضهم لمشاعر البعض الآخر، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن ينفر بينهم.