لا نجد هنا متسعًا للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض ، إلا في حدود ضيقة سنبينها بعد .
فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام ، ويعده من خصال الكفر أو النفاق …ففي القرآن نقرأ : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) النحل :105.
وفي السنة : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر )(رواه الشيخان) وفي رواية لمسلم : ( وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ) .
وفي حديث آخر للشيخين : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ).
ولهذا جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا : ( الكذب مجانب الإيمان ) (رواه البيهقي وصحح الموقوف .)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي ﷺ :( يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب )(رواه البزار وأبو يعلى ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعًا وموقوفًا ، وقال : الموقوف أشبه بالصواب ).
وفي حديث مرسل رواه مالك : قيل يا رسول الله ، أيكون المؤمن جبانًا ؟ قال : ( نعم ). قيل له : أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال :( نعم ) . قيل له : أيكون المؤمن كذابًا ؟ قال : ( لا ) ( رواه مالك مرسلا عن صفوان بن سليم .)
ولهذا قالت عائشة : ( ما كان من خُلق أبغض إلى رسول الله ﷺ من الكذب )(رواه أحمد والبزار وابن حبان والحاكم وصححاه )
وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب . وتربية أبنائه على التطهر منه ، سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا . يكفي أنه كذب ، وإخبار بغير الواقع ، وتشبه بأهل النفاق .
وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم منفعة ، ولا يجتنبوا الكذب إلا إذا جلب عليهم مضرة ، فالتمسك بالفضيلة واجب ، وإن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر واتقاء الرذيلة واجب وإن درت بعض النفع الآني المحدود .
وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، ويخدعه باعتذارات زائفة ، وتعللات باطلة ، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة : عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به .
على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان ، فلا يستطيع التحرر منه ، وهذا هو المشاهد الملموس ، الذي عبر عنه الشاعر قديمًا فقال :
عوِّد لسانك قول الصدق وارض به
إن اللسان لما عوَّدت معتاد
ورسول الله ﷺ يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين . فيقول : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابًا ) (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وصححه واللفظ له)
ومع هذا فإن من خصائص الإسلام أنه دين يجمع بين المثالية والواقعية في توازن وتناسق ولا يكتفي بالتحليق في أجواء المثاليات المجنحة ، دون النزول إلى أرض الواقع الذي يعيشه الناس ، كما فعل بعض فلاسفة الأخلاق المثاليين من أنصار مذهب الواجب لذاته ، مثل الفيلسوف الألماني الكبير “كانت ” الذي لم يرخص في الكذب ونحوه في أي موضع ، ولأي سبب ومهما تكن النتيجة .
أما الإسلام فهو منهج الله الذي يعلم من طبيعة الحياة ، وضرورات الناس فيها ، ما جعله يرخص في الكذب في مواضع معينة ، مراعاة لطبيعة البشر ، وتقديرًا لما ينزل بهم من ضرورة قاهرة أو حاجة ملحة .
ولم نجد من وضَّح هذا الجانب ، ووفاه حقه من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي في موسوعته الإسلامية ” إحياء علوم الدين ” ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه بلفظه ، لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول : ” اعلم أن الكذب ليس حرامًا لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه ، فيكون جاهلا ، وقد يتعلق به ضرر غيره ، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذونًا فيه ،وربما كان واجبًا.
قال ميمون بن مهران : الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، أرأيت لو أن رجلا سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله ، فدخل دارًا ، فانتهى إليه ، فقال : أرأيت فلانًا ؟ ما كنت قائلاً ألست تقول: لم أره ؟ وما تصدق به . وهذا الكذب واجب .
فتقول : ” الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا ، فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحًا ، وواجب إن كان المقصود واجبًا “.
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب ، أو إصلاح ذات البين ، أو استمالة قلب المجني عليه ، إلا بكذب، فالكذب مباح ، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه ، فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة . فيكون الكذب حرامًا في الأصل إلا لضرورة .
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت : ( ما سمعت رسول الله ﷺ يرخص في شيء من الكذب ، إلا في ثلاث : الرجل يقول القول يريد به الإصلاح ، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها ) (أخرجه مسلم) وقالت أيضا : قال رسول الله ﷺ : ( وليس بكذَّاب من أصلح بين اثنين فقال خيرًا أو نمى خيرًا ) (متفق عليه) وقالت أسماء بنت يزيد : قال رسول الله ﷺ : ( كل الكذب يكتب على ابن آدم ، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما ) (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه)
قال : ” فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له ، أو لغيره “.
أما ماله : فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ، فله أن ينكره ، أو يأخذه سلطان ، فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها ، فله أن ينكر ذلك ، فيقول : ما زنيت وما سرقت وقال ﷺ : ( من ارتكب شيئًا من هذه القاذورات ، فليستتر بستر الله ) (الحاكم من حديث عمر بلفظ: ( اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها ، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله ) وإسناده حسن ، كما قال الحافظ العراقي)، وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلمًا ، وعرضه بلسانه ، وإن كان كاذبًا .
وأما عرض غيره : فبأن يسأله عن سر أخيه ، فله أن ينكره ، وأن يصلح بين اثنين ، وأن يصلح بين الضرات من نسائه ، ، بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه ، فيعدها في الحال تطيبًا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به.
ولكن الحد فيه ، أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط ، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعًا في الشرع من الكذب ، فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما ، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ، لأن الكذب يباح لضرورة ، أو حاجة مهمة ، فإن شك في كون الحاجة مهمة ، فالأصل التحريم ، فيرجع إليه .
” ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ، ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة له ، فيستحب له أن يترك أغراضه ، ويهجر الكذب ، فأما إذا تعلق بغرض غيره، فلا يجوز المسامحة لحق الغير ، والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال والجاه ، لأمور ليس فواتها محذورًا ، حتى إن المرأة لتحكي من زوجها ما تفخر به ، وتكذب وتكذب لأجل مراغمة الضرات ( أو الزميلات ) ، وذلك حرام .
وقالت أسماء : سمعت امرأة سألت رسول الله ﷺ قالت : إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل عليَّ شيء فيه ؟ فقال ﷺ : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور )(متفق عليه ،وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق)
” ومما يلتحق بالنساء الصبيان ، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب ( أو المدرسة أو الصلاة ) إلا بوعد أو وعيد ، أو تخويف كاذب ، كان ذلك مباحًا .
” نعم ، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذابًا ، ولكن الكذب المباح أيضًا قد يكتب ، ويحاسب عليه ، ويطالب بتصحيح قصده فيه ، ثم يعفى عنه ، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ، ويتطرق إليه غرر ( أي خطر ) كبير ، فإنه قد يكون الباحث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه ، وإنما يتعلل ظاهرًا بالإصلاح ، فلهذا يكتب “.
” وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله : هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ؟ وذلك غامض جدًا ، والحرام تركه ، إلا أن يصير واجبًا ، بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم ، أو ارتكاب معصية كيف كان ” (إحياء علوم الدين ، ج3،ص137،ص 139.)
– ) …(رواه مسلم)