اتفق الفقهاء على نجاسة الميتة و لحم الخنزير وجلدهما وكل ما أخذ منهما، واتفقوا أيضا على حرمة بيع هذه الأشياء، حتى لا يعد تحايلا على أكله، لكنهم اختلفوا حول طهارة جلده بالدباغ كغيره من جلود الميتة وما لا يؤكل لحمه، كما اختلفوا أيضا حول الانتفاع بشحوم الخنزير أو الميتة في غير الطعام والشراب.
وما نرجحه هنا أن الخنزير والميتة وما اشتق منهما يحرم أكله وبيعه ، ولا يحرم الانتفاع به كطلاء السفن أو بتحويل هذه النجاسة إلى عناصر أخرى غير عناصر الخنزير أخذا برأي من يرى استحالة النجاسة أي تحولها .
أما الجلود كلها فقد اخترنا القول بطهارته بعد الدباغ.
روى البخاري بسنده عن رسول الله ﷺ أنه قال عام الفتح وهو بمكة (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك ( قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)
يقول الإمام ابن حجر في الفتح :
قوله: (أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس)
أي فهل يحل بيعها لما ذكر من المنافع فإنها مقتضية لصحة البيع .
قوله: (فقال: لا هو حرام)
أي البيع ، هكذا فسره بعض العلماء كالشافعي ومن اتبعه ، ومنهم من حمل قوله ” وهو حرام ” على الانتفاع فقال: يحرم الانتفاع بها وهو قول أكثر العلماء ، فلا ينتفع من الميتة عندهم إلا ما خص بالدليل وهو الجلد المدبوغ ، واختلفوا فيما يتنجس من الأشياء الطاهرة فالجمهور على الجواز ، وقال أحمد وابن الماجشون : لا ينتفع بشيء من ذلك ، واستدل الخطابي على جواز الانتفاع بإجماعهم على أن من ماتت له دابة ساغ له إطعامها لكلاب الصيد فكذلك يسوغ دهن السفينة بشحم الميتة ولا فرق . قوله : ( ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك : قاتل الله اليهود إلخ )
وسياقه مشعر بقوة ما أوله الأكثرون أن المراد بقوله ” هو حرام ” البيع لا الانتفاع ، وروى أحمد والطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا ” الويل لبنى إسرائيل ، إنه لما حرمت عليهم الشحوم باعوها فأكلوا ثمنها ، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام ” .
قال أحمد : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد الحميد بن جعفر أخبرني يزيد بن أبي حبيب ولفظه ” يقول عام الفتح : إن الله حرم بيع الخنازير وبيع الميتة وبيع الخمر وبيع الأصنام ، قال رجل : يا رسول الله فما ترى في بيع شحوم الميتة ؟ فإنها تدهن بها السفن والجلود ويستصبح بها . فقال : قاتل الله يهود ” الحديث فظهر بهذه الرواية أن السؤال وقع عن بيع الشحوم وهو يؤيد ما قررناه ، ويؤيده أيضا ما أخرجه أبو داود من وجه آخر عن ابن عباس أنه ﷺ قال وهو عند الركن ” قاتل الله اليهود ، إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ” قال جمهور العلماء : العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة فيتعدى ذلك إلى كل نجاسة ، ولكن المشهور عند مالك طهارة الخنزير .
والعلة في منع بيع الأصنام عدم المنفعة المباحة ، فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية وغيرهم ، والأكثر على المنع حملا للنهي على ظاهره ، والظاهر أن النهي عن بيعها للمبالغة في التنفير عنها ، ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظمها النصارى ويحرم نحت جميع ذلك وصنعته ، وأجمعوا على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير إلا ما تقدمت الإشارة إليه في ” باب تحريم الخمر ” ولذلك رخص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير للخرز حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي يوسف وبعض المالكية ، فعلى هذا فيجوز بيعه ، ويستثنى من الميتة عند بعض العلماء ما لا تحله الحياة كالشعر والصوف والوبر فإنه طاهر فيجوز بيعه وهو قول أكثر المالكية والحنفية ، وزاد بعضهم العظم والسن والقرن والظلف ، وقال بنجاسة الشعور الحسن والليث والأوزاعي . ولكنها تطهر عندهم بالغسل ، وكأنها متنجسة عندهم بما يتعلق بها من رطوبات الميتة لا نجاسة العين ، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل إنه يطهر إذا سلق بالماء.
ويقول الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم:
يقال: أجمل الشحم وجمله أي أذابه . وأما قوله ﷺ: ( لا هو حرام ) فمعناه : لا تبيعوها فإن بيعها حرام ، والضمير في ( هو ) يعود إلى البيع ، لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعي وأصحابه أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السفن والاستصباح بها ، وغير ذلك مما ليس بأكل ولا في بدن الآدمي ، وبهذا قال أيضا عطاء بن أبي رباح ومحمد بن جرير الطبري ، وقال الجمهور : لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلا لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلا ما خص ، وهو الجلد المدبوغ .
وأما الزيت والسمن ونحوهما من الأدهان التي أصابتها نجاسة فهل يجوز الاستصباح بها ونحوه من الاستعمال في غير الأكل وغير البدن ، أو يجعل من الزيت صابونا أو يطعم العسل المتنجس للنحل ، أو يطعم الميتة لكلابه ، أو يطعم الطعام النجس لدوابه فيه خلاف بين السلف ، الصحيح من مذهبنا : جواز جميع ذلك ، ونقله القاضي عياض عن مالك وكثير من الصحابة والشافعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد ، قال : وروي نحوه عن علي وابن عمر وأبي موسى والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر ، قال : وأجاز أبو حنيفة وأصحابه والليث وغيرهم بيع الزيت النجس إذا بينه ، وقال عبد الملك بن الماجشون وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح : لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كله في شيء من الأشياء.
قال العلماء : وفي عموم تحريم بيع الميتة أنه يحرم بيع جثة الكافر إذا قتلناه ، وطلب الكفار شراءه ، أو دفع عوض عنه ، وقد جاء في الحديث : أن نوفل بن عبد الله المخزومي قتله المسلمون يوم الخندق ، فبذل الكفار في جسده عشرة آلاف درهم للنبي ﷺ فلم يأخذها ، ودفعه إليهم ، وذكر الترمذي حديثا نحو هذا . قال أصحابنا : العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة ، فيتعدى إلى كل نجاسة ، والعلة في الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة ، فإن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برضاضها ففي صحة بيعها خلاف مشهور لأصحابنا ; منهم من منعه لظاهر النهي وإطلاقه ، ومنهم من جوزه اعتمادا على الانتفاع ، وتأول الحديث على ما لم ينتفع برضاضه ، أو على كراهة التنزيه في الأصنام خاصة . وأما الميتة والخمر والخنزير : فأجمع المسلمون على تحريم بيع كل واحد منها .
قال القاضي : تضمن هذا الحديث أن ما لا يحل أكله والانتفاع به لا يجوز بيعه ولا يحل أكل ثمنه ، كما في الشحوم المذكورة في الحديث ، فاعترض بعض اليهود والملاحدة بأن الابن إذا ورث من أبيه جارية كان الأب وطئها فإنها تحرم على الابن ، ويحل له بيعها بالإجماع وأكل ثمنها ، قال القاضي : وهذا تمويه على من لا علم عنده ; لأن جارية الأب لم يحرم على الابن منها غير الاستمتاع على هذا الولد دون غيره من الناس ، ويحل لهذا الابن الانتفاع بها في جميع الأشياء سوى الاستمتاع ، ويحل لغيره الاستمتاع وغيره ، بخلاف الشحوم فإنها محرمة ، المقصود منها ، وهو الأكل منها على جميع اليهود ، وكذلك شحوم الميتة محرمة الأكل على كل أحد ، وكان ما عدا الأكل تابعا له ، بخلاف موطوءة الأب .
ومن خلال هذا الكلام نرى أن ما قال به الشيخ القرضاوي من جواز الانتفاع بجلود الخنزير يوافق جمهور الفقهاء وأن التحريم منصب على البيع وليس الانتفاع عند بعض الفقهاء أو أنه منصب على الانتفاع ولكن جلد الخنزير مستثنى كجلد الميتة عند الآخرين .