تفشت في بعض المجتمعات ظاهرة العزوبة لدى الشباب، والعنوسة لدى النساء، وترجع هذه الظاهرة إلي عدة عوامل أهمها : الغلاء الفاحش في المهور وإعداد بيت الزوجية مما يرهق الشباب ويجعلهم يعزفون عن الزواج، وكذلك أسباب اجتماعية ترجع إلى التفاخر والعجب والكفاءة على أسباب دنيوية، وأسباب نفسية خلقتها صورة خيالية عن فتاة المستقبل أو فتى الأحلام ليست موجودة على أرض الواقع .

يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي :
كانت أمور الزواج من أسهل ما يكون، ولكن الناس بعد ذلك، وفي عصرنا خاصة، عَسَّرُوا ما يَسَّرَ الله، وضَيَّقُوا ما وَسَّعَ الله، شَدَّدُوا على أنفسهم ولم يشدد الله عليهم، حتى رأينا العزوبة عند الشبان، والعُنوسة عند الفتيات، نرى شابًّا بلغ الثلاثين أو أكثر من عمره ولم يتزوج، ونرى فتاة بلغت الثلاثين أو أكثر ولم تتزوج، ولعلها لا تتزوج بعد ذلك، حينما يقول الناس: فاتها القطار .

لم هذا كله، ما الذي حَدَثَ؟ ما دام هناك رجال ونساء، فتيان وفتيات، فلماذا لا يتزوج هؤلاء من هؤلاء؟ ما المشكلة؟

المشكلة نحن الذين خلقناها، وقد وضع الناس عقبات كثيرة في سبيل الزواج؛
فهناك عقبات مادية، وعقبات اجتماعية، وعقبات نفسية .

1- عقبات مادية:
لا يستطيع الشاب أن يتزوج إلا أن يكون صاحب مال، ومال وفير، فالشاب المتخرج الذي يَقِفُ على أول السُّلَّم، لا يستطيع أن يوفر ما يُطْلَب منه، وما يطلب منه كثير، من الذي صنع هذا الكثير؟ الشرع لم يَصْنَعه، إنه في حاجة إلى مَهْرٍ يدفعه، والناس يُغَالُون في المُهُور، ويَتَبَاهون بها، المفاخرة والمكاثرة، والرياء الاجتماعي الزائف، بنت فلان دفع إليها كذا، وهذه بَذَلَ لها كذا كَأَنَّ هذا أَصْبَحَ مقياس القيمة للإنسان، أو الدخول في الجنة، ما قيمة هذا كله؟! وفي الحديث الشريف: “خَيْرُ الصداق أَيْسَرُه” “رواه ابن ماجة والحاكم عن عقبة بن عامر، كما في الصحيح الجامع الصغير وزيادته (3279)”، “من يُمْنِ المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رَحِمِها” “أَوْرَدَه الهيثمي في المجمع (4/255) وقال: رواه أحمد وفيه أسامة بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف وقد وثق، وبقية رجاله ثقات .”.

وقد خطب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الصحابة يومًا فقال: ” ألا لَا تُغْلُوا صُدُق النساء، ألا لا تغلو صُدُق النساء، فإنها لو كانت مَكْرُمَة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية” “رواه أحمد في مسند عمر بأرقام (285) و(287) و(340) وقال الشيخ شاكر: بإسناده صحيح كما رواه أبو داود (2106)، والترمذي وقال: حسن صحيح (1114)، والحاكم وصَحَّحَه (2/1745،176).”، والأوقية أربعون درهمًا .

أجل، لم يُزَوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بناته على شيء كثير، فاطمة بنت محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيدة نساء العالمين، تزوجت على ماذا؟ على دِرْع قَدَّمَها إليها علي بن أبي طالب! وماذا تَصْنَع فاطمة الزهراء بالدِّرْع؟! هل تُحَارِب بها؟ إنها شَيْء رمزي .

سعيد بن المسيب أحد التابعين وأَفْقَهُهم كما يقول أحمد بن حنبل يَرْفض أن يزوج ابنته من ابن الخليفة “هو عبد الملك بن مروان، خطبها لابنه الوليد حين وَلَّاه العهد.”، ويزوجها لأحد طلاب العلم في حلقته، قال له: يا ابن أبي وداعه، ماذا عندك؟ قال: والله ما عندي إلا درهم، قال: قد زوجتك ابنتي بدرهم !

نعم، زَوَّجَه ابنته بدرهم؛ لأنه كان يُريد لها رَجُلًا صالِحًا لم يَكُنْ الناس يتباهَون بما يتباهى به النساء الآن، لم هذا؟

وليت الأمر يَقِف عند المهر وغَلائِه إنه في حاجة إلى هدايا، في حاجة إلى ذهب يقدمه .

بعض البلاد هناك (شَبْكَة) أو (تلبيسة)، وبعض البلاد هناك ذهب… مَصوغات تُقَدَّم، مُعْظَمها أشياء لا تُلْبَس؛ لأنها بأحجام كبيرة، وأوزان ثقيلة، وأشكال قديمة، لا تلائم ذوق هذا العصر، حتى إنه قد كثرت علي الأسئلة عن هذا الحُلِي: هي يُزَكَّي أو لا يزكي؟؛ لأن المرأة لا تَلْبَسُه إلا للتباهي فقط، هو شيء لا يُلْبَس، ولكن تتباهى بأن عندها الشيء الكثير قُدِّمَ لها في عُرْسِها، لم هذا ؟ لماذا نضيق على أنفسنا ونشدد .

الأحفال والولائم التي تقام للعرس، وقبل العرس، وبعد العرس، وتذبح فيها الذبائح، ويؤكل قليلها، ويُلقى في سَلَّاتِ المهملات و(الدرامات) كثيرها، وبلاد أخرى تَتَضَوَّر من الجوع فلا تَجِدُ اللقمة لم هذا؟ شَدَّدَ الناس على أنفسهم، تراهم يقيمون حفلاً للخِطبة، وحفلًا لعقد القران، وحفلاً للزفاف، ما هذا كله يا عباد الله؟ !

ثم بعد ذلك يأتي البيت، وتأثيث البيت، لابد من أن يَكُون هناك شَقَّة مفروشة بأحدث الأثاث، أو (فيلا)، أو ما شابه ذلك .

ثم بدعة جديدة اخترعها الناس بعد الزواج، ما سَمَّوْه (شهر العسل) والسفر إلى الخارج لقضاء شهر العسل! تكاليف جديدة أضافها الناس، هي في النهاية آصار وأغلال في أعناقهم، وعقبات في طريقهم .

كل هذا يعقد الأمور، ويزيد من صعوبتها، وما طلب الله منا ذلك، ولا كلفنا الشرع ذلك، نحن الذين شددنا على أنفسنا؛ ولهذا ينتظر الشاب حتى يُمْكِنُه أن يوفر ما يطلب منه، وربما اسْتَدَان، والدَّيْنُ هَمٌّ بالليل، ومَذَلَّةٌ بالنهار، أو ربما ذهب إلى البنك يستقرض منه الربا فيَأْذَن من أول زواجه بِحَرْب من الله ورسوله، لِمَ هذا؟ عقبات نحن الذين أنشأناها ووضعناها، عقبات مادية لا معنى لها .

2-  عقبات اجتماعية:
هناك اعتبارات عند كثير من الناس… يَتَقَدَّم إليهم الشاب فيرفضونه، لم هذا؟ هذا؛ لأنه من أُسْرَة دون أسرة، أو طبقة دون الطبقة، أو كذا وكذا، معايير ما أنزل الله بها من سلطان .
إن لكل عصر معاييره، هناك من الفقهاء من قال بالكفاءة في النسب والحسب والحرفة وغير ذلك، ولكن هناك من رفض هذا كله وقال: (… إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ…) (الحجرات: 13)، المقياس هو الدين والخلق، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا أتاكم من تَرْضَوْنَ خُلُقه ودِينَه فزوجوه، إلا تفعلوا، تَكُنْ فتنة في الأرض وفساد عريض” “رواه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم، عن أبي هريرة، ورواه ابن عدي عن ابن عمر، ورواه الترمذي، والبيهقي في السنن، عن أبي حاتم المزني، ورَمَزَ له السيوطي في (الجامع الصغير) بالصحة.” وكانوا يقولون: (إذا زوجت ابنتك فزوجها ذا دين، إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها)؛ لأنه يَخُاف الله فيها، فهو يُعَاشِرُهَا بمعروف أو يُسَرِّحُهَا بإحسان، ولا ينسى الفضل فيما سَبَقَ .

هذا هو الإنسان المؤمن، هذا هو الذي ينبغي أن يُحْرَص عليه .
والذين قالوا بالكفاءة من الفقهاء، قالوا: إن العالِم كُفْءٌ لبنت السلطان؛ لأن العلم يرفع صاحبه، ويُعْلِي من قدره؛ لأنه إذا وقف الأمر عند الحسب والنسب، معنى هذا أننا أصبحنا طبقات كطبقات الهنود، لا يستطيع أحد أن يرتقي من طبقة إلى طبقة والإسلام يرفض ذلك .

العلم أجلسه بجوار الخلفاء :
يستطيع الإنسان بعلمه وعمله أن يرتقي إلى أعلى الدرجات في المجتمع المسلم، وهذا ما رأيناه منذ عصر الصحابة، رضوان الله عليهم .

كان عطاء بن أبي رباح الفقيه التابعي رَجُلًا أسود اللون أفطس الأنف، أعرج الرجل، قصير القامة، ولكنه جلس بجوار سليمان بن عبد الملك “هو أحد كبار خلفاء بني أمية، أخرج الخلافة من أولاده وعَهِدَ بها للخليفة الزاهد عمر ابن عبد العزيز، رضي الله عنه.” في الحج، يفتي الناس في المناسك، قالوا: إنما رَفَعَه العلم .

وَالعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ === وَالجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالشَّرَفِ

ينبغي أن نُعِيدَ النظر في معاييرنا، فالمُهِمُّ هو سعادة بناتنا وأبنائنا لا يجوز أن نتحجر على مقاييس قديمة، فالزمن يتغير، والحياة تتطور، والأنظار تختلف، والله ـ تعالى ـ يقول: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ) (أي زوجوهم) (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32 ).

لابد لنا من هذه النظرة، حتى لا تقف هذه المعايير أحجار عَثْرَة في سبيل حياة سعيدة لأبنائنا وبناتنا .

3- عوامل نفسية :

فهناك عوامل نفسية عند بعض الفتيان، فهو يضع أمام عينيه مثالاً يُحَلِّق في خياله، يرسم امرأة مثالية يريدها زوجة له، موصوفة بكل جمال وكمال، وهذا لا يوجد في واقع الحياة .

الحياة قَلَّمَا نَجِد فيها الكمال المطلق، فامرأة عندها الجمال، وأخرى عندها المال، وأخرى عندها النسب، أَمَّا أن يوجد فيها كل شيء، فَقَلَّمَا يجتمع فيها هذا .

ولذلك أوصانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: “تُنْكَح المرأة لأربع: لِمَالها؛ ولِحَسَبها، ولجمالها؛ ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يداك” “رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة (المنتقى من كتاب الترغيب والترهيب:2/552، الحديث 1106)، وقوله: “تَرِبَتْ يَدَاكَ” معناه: الحث والتحريض، وقيل: هو دعاء له بكثرة المال، أي اظفر بذات الدين، ولا تلتفت إلي المال، أكثر الله مالك.”، “الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة” “رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن ابن عمر، ومسلم أيضًا، عن ابن عمر، كما في صحيح الجامع الصغير(3413).”، صاحبة الدين هي التي تَسُرُّك إذا نَظَرْتَ، وتُطِيعُك إذا أَمَرْتَ، وتحفظك إذا غِبْتَ، وتخاف الله في عِرْضِك وولدك ومالك: (… فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ…) (النساء : 34).

وكثير من الذين يُحَلِّّقون وراء هذه الأحلام والمثاليات، قَلَّمَا يُحقِّقون ما يَنْشُدون .

هذا هو ديننا، ديننا الذي جاء بالتيسير، فما لنا نَلْجَأ إلى التعسير؟ ديننا جاء بالتوسع، فلماذا نلجأ إلى التضييق؟ ديننا خَفَّفَ عنا فلماذا نُشَدِّد على أنفسنا؟

علينا أن نُدْرِكَ هذا، ونُعَلِّمَ أبنائنا وبناتنا هذا، حتى نَحُلَّ تلك العقدة، حتى يتزوج الشبان والشابات، بدل أن يلجأ الشباب إلى طرق تعرفونها، يَجِدُون الحرام فيها مُيَسَّرًا هنا وهنالك، أو بدل أن يلجأ إلى الزواج من أجنبية، ويَدَع ابنة بلده، وأقرب الناس إليه .

هذا هو الإسلام، فإذا أردنا الخير كل الخير، والسعادة كل السعادة، فلابد أن نرجع إلى هذا الدين، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .

نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يُوَفِّقنا إلى ما يُحِبُّ ويَرْضَى، وأن يُعَلِّمُنَا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب .