من المعلوم أن الناس مختلفون في الرأي والعقيدة والسلوك بحكم طبيعتهم البشرية التي تَخطِئ وتُصِيب قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (سورة هود : 118-119) وقد أمَدَّهم الله بهُدًى من عنده عرَّفهم فيه الخير ودعاهم إليه وعرفهم فيه الشر وحذرهم منه، وقال لآدم ومن معه حين أَهْبَطهم إلى الأرض (فإمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى) (سورة طه : 123) وأرسل إليهم الرسل تَتْرَى لينبهوهم إلى هذه الحقيقة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، حتى جاء خاتمهم محمد ـ ﷺ ـ فأكَّد ما دعوا إليه من العقائد الأساسية، وبين أنه ليس غريبًا عنهم في هذه الدعوة ، وقرَّر وجوب الإيمان بهم جميعًا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (سورة البقرة : 136).
وكانت دعوة الإسلام عامة غير خاصة بزمان أو مكان، فهي لكل الناس، سواء منهم من كان على دين سابق ومن ليس على دين، قال تعالى: (ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبلَ مِنْهُ وَهُو فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ) (سورة آل عمران : 85) وكان عرض الدعوة على ضوء قوله تعالى: (وَقُلْ لِلذينَ أُوتُوا الكِتَابَ والأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فإنْ أَسْلَمُوا فقَدِ اهْتَدَوْا وإنْ تَوَلَّوْا فإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ واللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (آل عمران : 20) فليس هناك إكراه، لأن العقائد لا تُغرَس إلا بالاقتناع ، وما على الرسول إلا البلاغ (وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (سورة الكهف : 28)، (لا إكراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (سورة البقرة : 256).
وحينما أرسل الرسول الكتب لدعوة الملوك والرؤساء عرض عليهم الإيمان ولم يُلزِمهم به، فإن أسلموا فبها، وإن أبوْا طلب منهم الاعتراف بالوضع الجديد للإسلام وعدم التعدي عليه، ففي بعض الكتب (يا أهل الكتاب تَعالَوْا إلى كلمةٍ سَواءٍ بيْننا وبيْنَكُمْ ألا نَعْبُدَ إلّا اللهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أرْبابًا مِنْ دُونِ اللهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران : 64).
وعندما تخرج قوافل الدعوة وتمر على جماعة تعرض عليهم الإسلام، فإن أسلموا فذاك المراد، وإلا طلبوا منهم عدم التعرض لمسيرتهم وتركوهم وما يَدِينون، وتعهدوا بحمايتهم وضَمان حريتهم لِقَاءَ مقابل رمزي يطلق عليه اسم الجِزْيَة، وهؤلاء معاهَدون ، فإن تعرضوا للمسلمين كانوا حربيين، يقاتلون ليفسحوا لهم الطرق، فإذا انتشر الإسلام في إقليم أو دار أو جماعة وبَقِيَ بعضهم على دينه كانوا ذميين، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات الاجتماعية مثل من يعيشون معهم من المسلمين.
يتبين من هذا أن غير المسلمين ثلاثة أصناف، صنف محارِب، وصنف معاهَد، وصنف ذِمِّي.
والمحارِب لا نبدؤه بحرب ولكن نَرُدُّ عليه إن حاربنا، وحربه ضرورة بقدرها قال تعالى: (وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ الذينَ يُقَاتُلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (سورة البقرة : 190) وقال تعالى: (وقاتِلُوهُمْ حتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ للهِ فإنِ انْتَهَوْا فلا عُدْوانَ إلاّ عَلَى الظالِمِينَ) (سورة البقرة : 193). وهؤلاء تَحرُم مودتهم وموالاتهم ضد المسلمين كما قال سبحانه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِياءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (سورة الممتحنة : 1) وقال أيضًا: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤمِنونَ الكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ ومَنْ يَفْعَلْ ذلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيءٍ إلا أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وإلِى اللهِ الْمَصِيرُ) (سورة آل عمران : 28).
والمعاهَد من لم يقبل الإسلام وتعهد بعدم حرب المسلمين، وهؤلاء يُحترم عهدهم، لا يحاربون إلا إذا نَكَثُوا العهد، قال تعالى: (فما اسْتَقامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لهم) (سورة التوبة : 7) وقال تعالى:(فإنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أئمَّةِ الكفر إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (سورة التوبة : 12).
وحذَّر النبي ـ ﷺ ـ من الغدر بهذا العهد وأمر المسلمين باحترامه، وهو الذي رَدَّ أبا جندل وقد فرَّ هاربًا من أهل مكة وأسلم، لأن العهد في الحديبية كان يقضى برده، وقال في ذلك: “نَفِي لهم بعهدهم ونستعينُ اللهَ عليهم” وقال مثل ذلك في أبي بَصِير وقال في احترام العهد: “من ظلم معاهَدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ شيئًا منه بغير طِيب نفس فأنا حَجِيجُه يوم القيامة. رواه أبو داود ، وعهد عمر لأهل إيلياء معروف، وفيه الأمان على أنفسهم وكنائسهم وعدم إكراههم على الدين وعدم الإضرار بهم.
والذمي هو من عاش بين المسلمين فهو مواطن معهم، له ما لهم و عليه ما عليهم، ولا بأس بالتعاون مع الذميين على الخير ومن برِّهم ومجاملتهم في الحدود المشروعة، كما كان اليهود في المدينة أيام النبي ـ ﷺ ـ والمعاهدة معهم معروفة.
وفي هؤلاء وغيرهم من المعاهَدين جاء الحديث الذي رواه البغوي “إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرْب نسائهم ولا أكْل ثمارهم إذا أعطوكم الذي فُرِضَ عليهم” وفيهم أيضًا يقول سبحانه:”لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ . إنَّمَا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنْ الذينَ قاتَلُوكُمْ في الدِّينِ وأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وظاهَرُوا عَلَى إخْراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ فأُولئكَ هُمُ الظالِمُونَ) (سورة الممتحنة : 8،9).
والنبي ـ ﷺ ـ تعامل مع اليهود واقترض منهم الطعام، ولم يَرْضَ للمسلم أن يتعدى على اليهودي الذي فَضَّل موسى عليه، ونهى عن تفضيله على الأنبياء، مع أنه أفضلهم ، وذلك منعًا للفتنة، وقال في حديث رواه مسلم “الأنبياء إخوة من عَلّاتٍ، أمهاتهم شتى، ودِينُهم واحد، وأنا أوْلى بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نَبِيٌّ” ورأى عمر يهوديًا ضريرًا يَسأل، فجَعل له من بيت المال ما يَكفِيه، وكتب للولاة بمعونة الذميين الفقراء ، وكانت هذه المعاملة لغير المسلمين من منطلق أن الإسلام دين السلام، لا يبدأ أحدًا بحرب ما دام مسالمًا، قال: (وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لَها وتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (سورة الأنفال : 61).
وبخصوص أهل الكتاب من اليهود والنصارى أباح التزوج من نسائهم وأكل ذبائحهم ولا يقال: إن أخذ الجزية من أهل الذمة ظلم لهم أو جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية ، فإنها تقابل الزكاة التي فرضت على المسلمين، وكلتاهما لمصلحة المواطنين جميعًا، وهي مفروضة بنسب بسيطة على الذكور القادرين فقط.
وهناك حوادث كثيرة في أيام الرسول وخلفائه، ونصوص وتشريعات كثيرة في القرآن والسنة تدل على العدل والإنصاف والرحمة والسلام في تعامل المسلمين مع غيرهم ، وضعت فيها تآليف خاصة.
جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردي “ص 145” أن عقد الجزية مع الذميين يشترط فيه شرطان، أحدهما مستحق والآخر مستحب، وذكر أن المستحق فيه ستة شروط:
أحدها: ألا يذكروا كتاب الله تعالى بطعن فيه ولا تحريف له.
والثاني: ألا يذكروا رسول الله ـ ﷺ ـ بتكذيب له ولا ازدراء.
والثالث: ألا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه.
والرابع: ألا يُصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح.
والخامس: ألا يَفتنوا مسلمًا عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا لِدِينه.
والسادس: ألا يُعينوا أهل الحرب ولا يوادوا أغنياءهم، فهذه حقوق ملتزمة فَتَلْزَمُهم بغير شرط، وإنما تشترط إشعارًا لهم وتأكيدًا لتغليظ العهد عليهم، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم.
وتحدث الماوردي عن الأمور المستحبة التي تتعلق بالملابس والأبنية والنواقيس والمجاهرة بالمعاصي، وما يتعلق بالموتى ووسائل الانتقال، وقال إنها لا تَلْزَم حتى تُشتَرط ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضًا لعهدهم، لكن يؤدبون عليها زَجرًا، ولا يؤدَّبون إن لم تُشترط، ثم تحدث عن كنائسهم إنشاءً أو تعميرًا، ولو نقضوا العهد لم يستبح بذلك قتْلهم ولا غنْم أموالهم ولا سَبْي ذَرَارِيهم ما لم يُقاتِلوا ، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مَأمَنهم من أدنى بلاد الشرك، فإن لم يَخرُجوا طَوعًا أُخرِجوا كَرْهًا.
وجاء في كتاب “غذاء الألباب للسفاريني” ج 1 ص 12 كلام طويل عن التعامل معهم وموقف أحمد بن حنبل منهم لا داعي لذكره فيرجع إليه من شاء.
إن عقد الذمة يجوز مع من يعيشون معنا في بلاد الإسلام، كما يجوز مع من لا يقيمون فيها، فقد عقد الرسول عقدًا مع نصارى نجران مع بقائهم في أماكنهم وديارهم دون أن يكون معهم أحد من المسلمين.