الفتوى والقضاء في صدر الإسلام
كانت الأحكام الشرعية سهلةَ المأخذ في صدر الإسلام، إما من القرآن وإما من السنة. فكان القرآن يُجيب على الأسئلة وكذلك الرسول ـ ﷺ ـ كان يُجيب على ما يُوجَّه إليه من أسئلة، وكان الصحابة والتابعون مِن بعدهم يَعرفون الأحكام ويُعَلمون مَن لم يعْرفها من الذين لم تتيسَّر لهم معرفتها مباشرةً من الكتاب والسنة.
والمفروض فيمن يَجهل حُكْمًا شرعيًّا أن يَسأل عنه مَن يعرفه، والمفروض أيضًا فيمن يَعلم أن يُعلم مَن لا يَعلم، والنصوص في ذلك معروفة.
ومن الأحكام الشرعية ما هو موضع اتفاق لا يختلف فيه اثنان، كصلاة الظهر أربع ركعات، ومنها ما فيه اختلاف لعدم ورود النص الصريح الواضح فيه، وقام المجتهدون بمحاولة معرفته من المصادر الأساسية حسب القواعد المعروفة للاستنباط. وذلك كقراءة الفاتحة خلف الإمام. وفي هذا النوع قد تختلف الآراء، ويُمكن لأي إنسان أن يأخذ بأي رأي منها دون حرج بعيدًا عن التَّلْفيق الذي تُتَتَبَّع فيه الرخص ويُسْلِمُ إلى حكم في المسألة لا يقول به أحد من المجتهدين كالزَّواج بغير صَداق ولا ولي ولا شهود.
وكان في الصحابة مجتهدون تختلف أنظارهم في المسألة الواحدة، وكذلك كان في التابعين مثلُهم، وكان الاختلاف محدودًا، ثُمَّ كثر بتقدم الزمن وكثرة الحوادث التي لم يَرِد فيها نصٌّ وليْست لها نظائر سابقة يُقاس عليها إن توافرت عوامل الصحة للقياس، وبانتشار العلماء في الأقطار كان بعض الأقطار يَميل إلى رأي العالِم البارز فيها، وحدث في بعض الأقطار أن اختار الحاكم فيها رأيًا من آراء العلماء ليكون القضاء والفتوى على أساسه، وجاءت القاعدة التي قرَّرها الأصوليون وهي:
“حُكم الحاكم يرفع الخلاف” فطُبقت في بعض البلاد على المؤسسات الرسمية، وتُركت لغيرها الحرية في اتِّباع أي رأي من الآراء الاجتهادية واختياره للإجابة على الأسئلة التي توجَّه إليها. في أيام النبي ـ ﷺ ـ كانت السلطات الثلاثة المعروفة حديثًا في يده ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية. ثم فُصلت بعد ذلك بتطور النظم، ومن السلطة التشريعية كان منصب الإفتاء، ومن القضائية كان منصب القضاء.
وظهرت الصفة الرسمية لهذين المنصبين في الدولة الإسلامية في عهد السلطان سُليمان القانوني سنة 926 هـ(1520م)، ونهض بأمور الدنيا والدِّين، ولما ضَعُفَت الدولة العثمانية ظهر في مصر نظام الامتياز، ونشأت المحاكم المُختلطة سنة 1875م، وصدرت اللائحة الشرعية 1880م، وجرى نص المادة “25” منها بأن المحاكم الشرعية هي المختصة بنظر مواد الأحوال الشخصية وما يتفرَّع عنها، وكذا في مواد القتل ما يُسمَّى الآن “بالقانون الجنائي”؛ ولذلك كان عرض الأحكام على المفتى “واجبًا، ثم جاءت المحاكم الأهلية سنة 1883م التي صنعها الاستعمار، فضعُف شأن المحاكم الشرعية واقتصرت على الأحوال الشخصية فقط.
كان الجامع الأزهر الشريف هو المرجع لمعرفة الأحكام الشرعية عند الحاجة إليها، فكانت المحاكم تَطلب من شيخه الرأي في المسألة الدينية ليَسْتنير به القاضي في الحكم، وصدر قرار رسمي بمنصب الإفتاء مع منصب مشيخة الأزهر ثم أُضِيفَ منْصب الإفتاء إلى وَزَارَة العدل فكان يُختار المفتي من كبار القضاة ومن أعضاء المحكمة العليا الشرعية بالذات، ثم أُلْغي القضاء الشرعي سنة 1955م، ومع ذلك بَقِيَ منصب المُفْتي إلى الآن. وحصرت مهمته الرَّسمية في أمرين: إثبات أوائل الشهور العربية وبخاصة ما فيها مواسم، وأخذ الرأي في الإعدام بالقصاص بعد إجراءات المُحاكمة، ورأيه في الأمر الأول مُلزِم كما كان رأي المحكمة العليا الشرعية قبل إلغائها مُلزِمًا، ورأيه في الأمر الثاني استشاري غير مُلْزِم.
العلاقة بين الإفتاء والقضاء
الأولى: أن الفتوى لا تَتَعَدَّى أن تكون إخبارًا عن الله تعالى لمُجَرد بيان الحكم، وليس فيها إِلْزَام بهذا الحكم، أما القضاء فهو إلى جانِبِ الإخبار عن الله تعالى ببيان الحُكم، فيه إلزام بهذا الحكم، وللقاضي حقُّ إقامة الحدود والقِصَاص، وله الحَبْس والتَّعزِير عند عدم الامتِثَال.
والثانية: أن كل ما يتَأتَّى فيه الحُكْم تَتَأتَّى فيه الفَتْوَى، يعنى كل ما فيه قضاء يُمكن أن يكون فيه فتوى، وليس العكس، يَعنى ليس كل ما فيه فتوى يمكن أن يكون فيه قضاء.
فالأحكام الشرعية قسمان: قِسم يَقبل القضاء مع الفتْوى كمسائل المعاملات والأحوال الشخصية في الزواج والطلاق وما يتعلق بهما، وقسم لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات فليس للقاضي أن يحكم بصحة الصلاة أوبطلانها.
وذلك إلى جانب أن القضاء يقوم على خصومة يَستمع فيها القاضي إلى الدَّعوى وأدلَّتها، بخلاف الفتوى فليس لها ذلك، إذْ هي واقعة يَطلب صاحبها حكم الشرع فيها.
ثم قال العلماء: قد تكون الفتوى مُلْزِمة إذا التزم المُستفتي بالعمل بها، أو شَرَع في تنْفيذ الحكم الذي كشفَتْه الفتوى، أو اطمأنَّ قلبُه إلى صِحَّتِها، أو لم يجد إلا مُفتيًا واحدًا، فلو وَجد أكثر من مُفْتٍ وتوافَقت الفَتْوَيَان لَزِمَ العمل بها، وإن اخْتَلَفَتَا فإنِ استَبان له الحق في إحداهما لَزِمَه العمل بها، وإلا كان عليه العمل بفتوى مَن يطمئن إليه عِلمًا ودينًا.
بعد هذا نقول: إنَّ أيَّ فتوى من عالم موثوق به تُوافِق أيَّ مذْهب من المذاهب الفقهيَّة المعروفة يَجُوز الأخْذ بها، أيًّا كانَت وظيفة العالم، كما يجوز له عدم الأخذ بها؛ لأنها غير مُلزِمة إلا في الأحوال التي سبق ذكرها.