تطور العلم الحديث تطورا كبيرا ، وأصبح بإمكانه علاج كثير من الأمراض بالجينات الوراثية ، ووصل التطور إلى علاج الخلايا الإنشائية – كالخصية المكونة للحيوانات المنوية- بإضافة غيرها سليمة ، ويعتبر السليم في هذه الحالة هو الأصل المكون للخلايا ، أو علاج التالف دون إضافة .

والعلاج الجيني لهذه الخلايا بالنقل أو الإضافة الجينية من الآخر يكون محرما لحرمة ما يترتب عليه وهو اختلاط الأنساب، فضلا عما يترتب على العلاج في هذه الحال من إهدار أحد المقاصد الضرورية للشارع، وهو حفظ النسل. أما في حالة العلاج فلا بأس .

يقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر :

أحدث الكشف عن الجينوم البشري، ثورة هائلة في مجالات الطب المختلفة والتي منها العلاج الجيني، وينصب هذا النوع من العلاج على الخلايا، سواء في ذلك الخلايا الجسدية أو الإنشائية، ولما كانت معالجة الخلايا الإنشائية من الخطورة بمكان؛ لأن أثرها لا يقتصر على المريض، وإنما يمتد إلى الأجيال المقبلة من ذريته ومن ثم رأيت أن أعرض لها بالبحث، لأبين موقف الشريعة الإسلامية من العلاج، ويُقصد بالخلايا الإنشائية “الخلايا الجنسية” التي هي الحيوانات المنوية والبييضات والخلايا التي تكونها عند الذكر والأنثى، وهي المبايض والخصي.

وعلاج هذه الخلايا جينيا -إذا كانت حاملة لجينات ممرضة أو مشوهة- قد يكون بنقل جينات سليمة إليها من الآخرين، سواء على سبيل الاستبدال أو الإضافة، وقد يكون بإصلاح الجين الممرض دون إضافة أو استبدال، وإن كان الغالب في العلاج الجيني إضافة نسخة سليمة من الجين إلى الخلية المحتوية على الجين الممرض أو المشوه، وعند إتمام هذا النقل تتغير المعلومات الوراثية في الخلية عندما يبدأ الجين المنقول إليها في التعبير عن نفسه.

وتمثل هذه الخلايا التراث الجيني للأجيال المتعاقبة، فعلاجها جينيا لا يؤثر على المادة الوراثية للإنسان المعالج فقط وإنما يمتد تأثيرها إلى المخزون الوراثي لذريته أبدا.

كيفية العلاج بالخلايا الإنشائية :

وقد منع علماء البيولوجيا علاج الخلايا الإنشائية جينيا، وذلك للعواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب عليه بما يشبه إجماعا منهم على ذلك.

والعلاج الجيني للخلية الإنشائية قد يكون بإدخال جين سليم من شخص آخر فيترتب عليه تأثر هذه الخلية بالجين المنتقل إليها، والذي “يشفر لصفات وراثية” هي صفات من أُخذ منه الجين الذي تعالج به الخلية الإنشائية، وهي صفات وراثية مختلفة عن تلك التي تحملها الخلية الإنشائية للشخص المريض، ولما كانت هذه الخلية تمثل المخزون الوراثي للإنسان الذي ينتقل إلى الأجيال المتعاقبة من ذريته، فإن هذا النقل يترتب عليه اختلاط الأنساب كما لا يخفى.

وقد يكون بإضافة جين سوى إلى الجين الممرض أو المشوه، ليوقف عمله أو يحد من نشاطه في الخلية، وفي هذه الحال سيعبر الجين السوي المضاف ذو الأصل الأجنبي عن نفسه، و”يشفر للصفات الوراثية” لمن أخذ منه، لا لصفات من أضيف إلى خليته، ومن ثم فإن الذرية الناتجة من هذه الخلية تكون حاملة لصفات من أخذ منه الجين السوي، فيترتب على هذه الصورة من العلاج اختلاط الأنساب كذلك.

وقد يكون بإصلاح الجين الممرض أو المشوه من دون إدخال جين سوي إلى الخلية الإنشائية، وهو نوع من العلاج الجيني، إلا أن الغالب في هذا النوع من العلاج نقل الجينات السوية من الآخر إلى داخل الخلية في الجسم المريض، وإصلاح الجين الممرض أو المشوه وإن كان لا يترتب عليه اختلاط الأنساب، إلا أنه قد يحدث طفرة في الخلية يترتب عليه من الأمراض والتشوهات الوراثية ما يكون أخطر من الذي تعالج منه الخلية الإنشائية.

موقف الشرع من العلاج بالخلايا الإنشائية :

وعلاج الخلايا الإنشائية جينيا، إذا كان بنقل جينات سوية أو إضافتها من الآخر، فإنه يترتب عليه اختلاط الأنساب، لأن الجنين الناشئ عن هذه الخلايا المنقولة، لا يحمل الصفات الوراثية لصاحب الجين الممرض أو المشوه، الذي ينجب هذا الجنين بالفعل، وإنما يحمل الصفات الوراثية لصاحب الجين السوي الذي تمت المعالجة به، وكل ما يترتب عليه اختلاط الأنساب حرمه الشارع:

يدل على هذا النصوص الكثيرة الدالة على حرمة الزنى، باعتباره سببا لاختلاط الأنساب.
والنصوص الدالة على حرمة أن ينسب الإنسان إلى نفسه ولدا ليس منه، والتي منها قول الله تعالى: “ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ” (الأحزاب :5)، وما رواه رجاء بن حيوة عن أبيه عن جده “أن جارية من خيبر مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مجح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذه؟ قالوا : لفلان قال: أيطأها؟ قيل: نعم قال فكيف يصنع بولدها، أيدعيه وليس له بولد، أم يستعبده وهو يغدوه في سمعه وبصره؟! لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره” .. المحج هي المرأة الحامل التي قاربت الولادة ، رواه أبو داود والحاكم .

والنصوص الدالة على حرمة نسبة امرأة ولدا إلى قوم ليس منهم أو جحود نسبه ممن هو منهم، والتي منها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الأولين والآخرين “.أخرجه الحاكم .

والنصوص الدالة على حرمة انتساب الإنسان إلى غير أبيه أو إلى غير من هو منهم، والتي منها ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام” وفي رواية أخرى “من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا” رواه مسلم .

ومن ثم فإن العلاج الجيني لهذه الخلايا بالنقل أو الإضافة الجينية من الآخر يكون محرما لحرمة ما يترتب عليه وهو اختلاط الأنساب، فضلا عما يترتب على العلاج في هذه الحال من إهدار أحد المقاصد الضرورية للشارع، وهو حفظ النسل.

وإذا كان العلاج الجيني لهذه الخلايا، يتم بإصلاح الجين الممرض أو المشوه دون نقل أو إضافة جينية من الآخر، فإنه قد يترتب عليه حدوث طفرات وراثية بالخلية، وهذه الطفرات لا يقتصر أثرها الضار على من تتم معالجته فقط، وإنما يمتد هذا الأثر ليشمل ذريته كذلك، والذي قد يصل إلى درجة إحداث التشوهات الخلقية المميتة أو المعوقة لهذه الذرية، والعلاج الذي يترتب عليه هذا الضرر محرم؛ لأن الشارع حرم التدخل في الجسم البشري، إلا إذا كان التدخل لإصلاحه فإذا كان التدخل فيه يفضي إلى الإضرار به، فإنه يكون محرمًا، للنصوص الدالة على حرمة الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، أو الإضرار بها، والتي منها: قول الله تعالى: “وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” (البقرة: 195)، وما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا ضرر ولا ضرار في الإسلام” أخرجه الحاكم.

فالمفسدة الناشئة عن العلاج الجيني في هذه الحالة مما يغلب على الظن وقوعها كما قال العلماء، وهي مفسدة أعظم من مفسدة بقاء هذه الخلايا دون علاج، وقواعد الشريعة تقضي بأنه “إذا تعارضت مفسدتان، روعي أعظمهما ضررًا، بارتكاب أخفهما” السيوطي في الأشباه والنظائر.

وما يدعو إليه بعضهم من اتباع العلاج الجيني للخلايا الإنشائية، كوسيلة متعينة للقضاء على الأمراض المستعصية، التي يعاني منها كثير من الناس في العالم، لا يسلم له به، إذ القول بتعيين وسيلة معينة للعلاج من مرض معين دون غيرها، قول غير دقيق في عصر التقدم التكنولوجي في مجال تشخيص الأمراض وعلاجها، فتعدد المواد العلاجية للغرض العلاجي الواحد، والاختلاف في أساليب العلاج وغير ذلك من عناصر الاختيار في العلاج، يدحض القول بتعيين العلاج الجيني للخلايا الإنشائية، كوسيلة لمعالجة الأمراض المستعصية، يضاف إلى هذا أن القول بتعين هذه الوسيلة دون غيرها، يقتضي القطع بنتائجها في معالجة هذه الأمراض، والعلوم الطبية علوم ظنية، لا تفيد هذه النتيجة المقطوع بها، واتباع هذه الوسيلة لعلاج هذه الأمراض، لا تدعو إليه الضرورة الشرعية أو الحاجة، لعدم تعينه لعلاج الأمراض والتشوهات الوراثية، وإن كانت مستعصية، وذلك لوجود وسائل كثيرة مباحة لعلاج هذه الأمراض والتشوهات، منها الجيني الذي يعالج الخلايا الجسدية، ومنها غير الجيني، وهذه البدائل لا تمنع منها أحكام الشريعة الإسلامية. أ.هـ