شرع الله سبحانه وتعالى القصاص زجرا ودرءا للتجرؤ على سفك الدماء، فمن كانت تحدثه نفسه بالقتل وسمع في كتاب الله تشريع القصاص، ورأى بعينيه القاتل تقطع رقبته جزاء قتله فإنه حتما سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على جريمة القتل.. بمثل هذا تحاصر الجرائم وهي لا تزال خواطر في رؤوس أصحابها.
وقد يبدو لولي المقتول أن يعفو عن القاتل ويسقط حقه في المطالبة برأسه، فلم يمنع الإسلام من هذا ، بل جعله من أعمال البر والخير ، وقد كان من هديه ﷺ أنه ما رفعت إليه جريمة قتل إلا أمر فيها بالعفو؛ ففي حديث أنس بسند صحيح عند أبي داو وغيره قال : “ما رأيت رسول الله ﷺ رفع إليه شىء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو” وهو أمر إرشاد واستحباب لا أمر إيجاب.
فإذا ضن الولي أن يعفو بالمجان فأحب أن يعفو مقابل مال، فهل يجوز له ذلك و يجبر القاتل على دفع المال أم من حقه أن يتمسك بالقصاص؟
هذا موضع اختلف فيه الفقهاء.
فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا يجوز أن يعفو ولي الدم إلى الدية إلا برضا الجاني , وأنه ليس لولي الدم جبر الجاني على دفع الدية إذا سلم نفسه للقصاص . وما احتجوا به حديث أنس في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال : “كتاب الله القصاص”
وذهب الشافعية في الأظهر , والحنابلة في المعتمد إلى أن موجب القتل العمد هو القود , وأن الدية بدل عنه عند سقوطه . فإذا عفا عن القصاص واختار الدية وجبت دون توقف على رضا الجاني . وهو قول أشهب من المالكية .
وفي قول آخر للشافعية , وهو رواية عند الحنابلة أن موجب القتل العمد هو القصاص أو الدية أحدهما لا بعينه , ويتخير ولي الدم في تعيين أحدهما . وأدلة هذا الاتجاه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :” …ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يودى وإما يقاد.
هل لهذا المال سقف ينتهي عنده، أم يجوز للولي أن يغالي في الفدية كيفما شاء؟
أخرج الترمذي بسند حسنه الألباني أن رسول الله ﷺ قال: ( من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية ،وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صالحوا فهو لهم وذلك لتشديد العقل ).
قال ابن قدامة في المغني :
من له القصاص فله أن يصالح عنه بأكثر من الدية , وبقدرها وأقل منها , لا أعلم فيه خلافا ; لما روى عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن جده , قال : قال رسول الله ﷺ { من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول ; فإن شاءوا قتلوا , وإن شاءوا أخذوا الدية , ثلاثين حقة , وثلاثين جذعة , وأربعين خلفة , وما صولحوا عليه فهو لهم . وذلك لتشديد القتل } . رواه الترمذي , وقال : حديث حسن غريب , وروينا أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا , فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات , ليعفو عنه , فأبى ذلك , وقتله . ولأنه عوض عن غير مال , فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه , كالصداق , وعوض الخلع , ولأنه صلح عما لا يجري فيه الربا , فأشبه الصلح عن العروض .انتهى.
يقول الدكتور عبد القادر عودة- رحمه الله- في التشريع الجنائي في الإسلام:
الصلح سبب من أسباب سقوط العقوبة, ولكنه لا يسقط إلا القصاص والدية أما ما عداهما فلا أثر للصلح عليها.
ولا خلاف بين الفقهاء في أن القصاص يسقط بالصلح, ويصح أن يكون الصلح عن القصاص بأكثر من الدية وبقدرها وبأقل منها.
والأصل في الصلح السنة والإجماع. فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله – ﷺ – قال: “من قتل عمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية, وما صولحوا عليه فهو لهم”, وفي عهد معاوية قتل هدبة بن خشرم قتيلاً فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله.
ولما كان القصاص ليس مالاً جاز الصلح عنه بما يمكن أن يتفق عليه الفريقان؛ لأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح على العروض, فيصح أن يكون بدل الصلح قليلاً أو كثيراً من جنس الدية أو من خلاف جنسها, حالاً أو مؤجلاً.
أما إذا كان الصلح على الدية وليس على القصاص فإنه لا يجوز أن يكون على أكثر مما تجب فيه الدية؛ لأن ذلك يعتبر رباً، فمثلاً لا يصلح الصلح على الدية مقابل مائة وعشرين من الإبل؛ لأن الدية مائة من الإبل فقط؛ ولأن الزيادة رياً.
ولا شك أن التسامح في مثل هذا الموطن، وعدم المغالاة في التصالح أفضل، فالله يقول: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وهذا يقتضي حسن القضاء وحسن الاقتضاء.
والله تعالى أعلم.