سبب استثناء أبوال ما يؤكل لحمه من النجاسة وجود عدد هائل من الأدلة يدل على ذلك، وبعض الفقهاء ممن لم يعمل بهذه الأحاديث رأى أنها نجسة نجاسة مخففة لكثرة البلوى ؛ إذ وجود الحيوانات التي تؤكل لحمها مع الناس أكثر من غيرها.
والحديث الأم في ذلك ، ما أخرجه البخاري وغيره: أنه ﷺ قال في الروثة: “إنها رِكْس” والرِّكْس: النجس، وزاد ابن خزيمة في رواية:”إنها ركس، إنها روثة حمار”. وهذه الرواية خصصت ما عممه الحديث الآخر، الذي شمل كل روث، فيبقى ما عدا روث الحمار على أصل الطهارة.
جاء في كتاب فقه الطهارة للدكتور يوسف القرضاوي :
اختلف الفقهاء في بول وروث ما يؤكل لحمه من الدواب، كالإبل والبقر والغنم ـ من الأنعام ـ ومثلها الطيور من الدجاج والبط والأوز والحمام ونحوها.
فعند المالكية أن هذه الأبوال والأرواث طاهرة، قال الدردير في الشرح الصغير: من الطاهر: فضلة المباح من روث وبعر وبول، وزبل دجاج وحمام وجميع الطيور، ما لم يستعمل النجاسة، فإن استعملها أكلا أو شربا، ففضلته نجسة.
وقد وافق محمد بن الحسن مالكا في طهارة بول ما يؤكل مستدلا بحديث العُرَنيين الذين وصف لهم الرسول الكريم شرب أبوال الإبل وألبانها، ليستشفوا بها، ولو كانت نجسة ما وصفها لهم دواء وشفاء، فإن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. خلافا لأبي حنيفة وأبي يوسف. وحجتهما أنه استحال إلى نتن وخبث فيكون نجسا، كبول ما لا يؤكل لحمه. ولكنهما جعلاه من النجاسة المخففة لتعارض النصوص، ولعموم البلوى به.
ويدخل في ذلك: بول الفَرَس، ولعاب البغل والحمار، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور، كلها نجاسته مخففة، وحكم النجاسة المخففة: أن يعفى فيها عن ربع الثوب أو البدن.
وعند زفر: روث ما يؤكل لحمه طاهر.
وقال الحنفية: خرء ما يؤكل لحمه من الطيور كالحمام والعصافير طاهر، لإجماع المسلمين على ترك الحمام في المسجد، ولو كان نجسا لأخرجوه منه، وخصوصا في المسجد الحرام.
واستثني من هذه الطيور: الدجاج والبط الأهلي، فنجاستهما غليظة بالإجماع.
وأما بول وروث ما لا يؤكل لحمه: فنجاسته غليظة عند أبي حنيفة، لثبوته بنص لم يعارضه غيره، وهو قوله في الروثة ” إنها رِكْس “. وعند أبي يوسف ومحمد: مخففة، لعموم البلوى به في الطرقات ووقوع الاختلاف فيه.
وعند الشافعية: الأبوال والأرواث كلها نجسة، سواء كانت مما يؤكل لحمه أم مما لا يؤكل لحمه، ونجاستها كلها عندهم غليظة، فلا يعفى عن شيء منها إلا ما يشق الاحتراز عنه.
وعند الحنابلة أكثر من رواية عن الإمام أحمد. ولكن الذي اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه من بضعة عشر وجها هو: القول بطهارة بول وروث كل ما يؤكل لحمه.
ترجيح ابن تيمية لطهارة بول وروث ما يؤكل لحمه:
ونظرا لأهمية هذا البحث الذي فصل فيه ابن تيمية القول، وذكر فيه من الحجج ما يشفي الصدور، ويزيح كل شبهة.
ننقل خلاصة أدلته هنا لتمام الفائدة:
الدليل الأول: أن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها، فكل ما لم يبيّن لنا أنه نجس فهو طاهر، وهذه الأعيان ـ بول وروث ما يؤكل لحمه ـ لم يتبين نجاستها، فهي طاهرة. وقد أفاض ابن تيمية في بيان ذلك وأطال في التدليل عليه.
الدليل الثاني: الحديث المستفيض الذي أخرجه أصحاب الصحيح وغيرهم: حديث أنس بن مالك: أن ناسا من عكل أو عُرينة قدموا المدينة، فاجتووها (شكوا من جوها) فأمر لهم النبي ﷺ بلقاح (إبل) وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها… إلى آخر الحديث.
ووجه الحجة أنه أذن لهم في شرب أبوال الإبل، ولا بد أن يصيب أفواههم وأيديهم وثيابهم وآنيتهم، فإذا كانت نجسة وجب تطهير أفواههم وأيديهم وثيابهم للصلاة. وتطهير آنيتهم، فيجب بيان ذلك لهم، لأن تأخير البيان عن وقت الاحتياج إليه لا يجوز. ولم يبين لهم النبي ﷺ أنه يجب عليهم إماطة ما أصابهم منه، فدل على أنه غير نجس.
كما أنه قرن بين الأبوال والألبان، وهذا يوجب استواءهما، أو على الأقل يورث شبهة.
وهناك دلالة أخرى في الحديث، وهو أنه أجاز لهم التداوي بأبوال الإبل مع ألبانها، ولو كانت نجسة محرمة، ما أباح لهم التداوي بها، فقد ثبت عنه منع التداوي بالحرام.
الدليل الثالث: الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر ابن سمرة وغيره: أن رسول الله ﷺ سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: ” صلوا فيها، فإنها بركة “. وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل: فقال: ” لا تصلوا فيها، فإنها خلقت من الشياطين “.
ووجه الحجة من وجهين:
أحدهما: أنه أطلق الإذن بالصلاة، ولم يشترط حائلا يقي من ملامستها والموضع موضع حاجة إلى البيان، فلو احتاج لبينه.
والوجه الثاني: أنها لو كانت نجسة كأرواث الآدميين لكانت الصلاة فيها: إما محرمة كالحشوش، والكُنُف، أو مكروهة كراهية شديدة، لأنها مظنة الأخباث والأنجاس. فأما أن يستحب الصلاة فيها ويسميها بركة، ويكون شأنها شأن الحشوش أو قريبا من ذلك، فهو جمع بين المتنافيين المتضادين، وحاشا الرسول ﷺ من ذلك.
ويؤيد هذا ما روي أن أبا موسى صلَّى في مَبَارِك الغنم، وأشار إلى البرية وقال: هاهنا وثَمَّ سواء. وهو الصاحب الفقيه العالم بالتنزيل، الفاهم للتأويل، سوَّى بين محل الإبْعار وبين ما خلا عنها، فكيف يجامع هذا القول بنجاستها؟!.
وأما نهيه عن الصلاة في مبارك الإبل، فلسبب اختصت به دون البقر والغنم والظِّباء والخيل، إذ لو كان السبب نجاسة البول، لكان تفريقا بين المتماثلين، وهو ممتنع يقينا.
الدليل الرابع: ما ثبت واستفاض من أن رسول الله ﷺ طاف على راحلته، وأدخلها المسجد الحرام الذي فضله الله على جميع بقاع الأرض، وبرّكها حتى طاف أسبوعا (سبعة أشواط) وكذلك إذنه لأم سلمة أن تطوف راكبة، ومعلوم أنه ليس مع الدواب من العقل ما تمتنع به من تلويث المسجد المأمور بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود، فلو كانت أبوالها نجسة لكان فيه تعريض المسجد الحرام للتنجيس، مع أن الضرورة ما دعت إلى ذلك، وإنما الحاجة دعت إليه.
الدليل الخامس: ما روي عن النبي ﷺ: أنه قال: ” فأما ما أُكِل لحمه فلا بأس ببوله ” إلا أن الحديث قد اختلفوا فيه قبولا وردا، فقال أبو بكر عبد العزيز: ثبت عن النبي ﷺ، وقال غيره: هو موقوف على جابر.
فإن كان الأول فلا ريب فيه، وإن كان الثاني فهو قول صاحب، وقد جاء مثله عن غيره من الصحابة: أبي موسى الأشعري وغيره، فينبني على أن قول الصحابة أولى من قول من بعدهم، وأحق أن يتبع. وإن علم أنه انتشر في سائرهم، ولم ينكروه، فصار إجماعا سكوتيا.
الدليل السادس: الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود: ” أن رسول الله ﷺ كان ساجدا عند الكعبة، فأرسلت قريش عقبة بن أبي معيط إلى قوم قد نَحَروا جَزُورًا لهم، فجاء بفَرْثِها وسلاها فوضعها على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد، ولم ينصرف حتى قضى صلاته ” فهذا أيضا بيَّن أن الفرث والسلى لم يقطع الصلاة.
الدليل السابع: ما صح عن النبي ﷺ ” أنه نهى عن الاستجمار بالعظم، والبَعْر ” وقال: ” إنه زاد إخوانكم من الجن ” وفي لفظ قال: “فسألوني الطعام لهم ولدوابهم، فقلت: ” لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفَر ما يكون لحما، ولكم بَعْره عَلَفٌ لدوابكم ” قال النبي ﷺ: ” فلا تستنجوا بهما، فإنهما زاد إخوانكم من الجن “.
فوجه الدلالة أن النبي ﷺ نهى أن يستنجى بالعظم والبعر الذي هو زاد إخواننا من الجن، وعلف دوابهم، ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا ننجسه عليهم.
ومعلوم أنه لو كان البعر في نفسه نجسا لم يكن الاستنجاء به ينجسه، ولم يكن فرق بين البعر المستنجى به والبعر الذي لا يستنجى به، وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه.
الدليل الثامن: أن هذه الأعيان لو كانت نجسة لبينه النبي ﷺ، ولم يبينه، فليست نجسة، وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها، خصوصا الأمة التي بعث فيها رسول الله ﷺ، فإن الإبل والغنم غالب أموالهم، ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم، مع كثرة الاحتفاء (حفاء الأقدام) فيهم.
وعدم ذكر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها، وعدم النهي عنه، والتقرير دليل الإباحة. ومن جهة: أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب، ولا تحال الأمة فيه على الرأي؛ لأنه من الأصول لا من الفروع. ومن جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، لا سيما إذا وصل بهذا الوجه.