من القيم الإنسانية والاجتماعية التي جاء بها الإسلام : الشورى.
ومعنى الشورى : ألا ينفرد الإنسان بالرأي وحده في الأمور التي تحتاج إلى مشاركة عقل آخر أو أكثر، فرأي الاثنين أو الجماعة أدنى إلى إدراك الصواب من رأي الواحد .
كما أن التشاور في الأمر يفتح مغاليقه، ويتيح النظر إليه من مختلف زواياه، بمقتضى اختلاف اهتمامات الأفراد، واختلاف مداركهم وثقافتهم، وبهذا يكون الحكم على الأمر مبنياً على تصور شامل، ودراسة مستوعبة .
فالإنسان بالشورى يضيف إلى عقله عقول الآخرين وإلى علمه علوم الآخرين.
وفي هذا يقول الشاعر العربي:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة فإن الخوافي قوة للقوادم
وقد دعا الإسلام إلى الشورى في حياةالفرد، وفي حياة الأسرة، وفي حياة المجتمع والدولة.
الشورى في حياة الفرد:
في حياة الفرد يربي الإسلام المسلم إذا أراد أن يقدم على أمر من الأمور المهمة، التي تختلف فيها الوجهات، وتتعارض الآراء والرغبات، ويتردد فيها المرء بين الإقدام والإحجام، أن يستعين بأمرين يساندانه على اتخاذ القرار الأصوب.
الأول : رباني، وهو استخارة الله تعالى، وهي صلاة ركعتين يعقبها دعاء مضمونه أن يختار الله له خير الأمرين في دينه ودنياه، ومعاشه ومعاده.
الثاني: إنساني، وهو استشارة من يثق برأيه وخبرته ونصحه وإخلاصه.
وبهذا يجمع بين استخارة الخالق، واستشارة الخلق. وقد حفظ المسلمون من تراثهم : ( لا خاب من استخار، ولا ندم من استشار) .
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستشيرون النبي (ﷺ) في كثير من أمورهم الخاصة، فيشير عليهم بما يراه صوابا أو أصوب أو أفضل.
كما رأينا حين استشارته فاطمة بنت قيس في أمر زواجها، وقد أبدى الرغبة فيها رجلان : معاوية وأبو جهم. فقال لها: ( أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) ! أي يضرب النساء. واقترح عليها أن تتزوج أسامة بن زيد . وكان الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يستشير بعض أصحابه في أموره الخاصة كذلك . فقد رأيناه في أزمة (حديث الإفك) يستشير علي بن أبي طالب، ويسأل أسامة بن زيد.
الشورى في حياة الأسرة :
وفي حياة الأسرة يدعو الإسلام إلى أن تقوم الحياة الأسرية على أساس من التشاور والتراضي. وذلك منذ بداية تكوين الأسرة . ولهذا رفضت نصوص الشريعة أن يستبد الأب بتزويج ابنته – ولو كانت بكرا – دون أن يأخذ رأيها. وأوجب التوجيه النبوي أن تستأذن البكر، وأن كانت تستحي، فجعل إذنها صماتها. فإن سكوتها عند عرض الأمر عليها دليل على الرضا والقبول.
وقد رد النبي (ﷺ) بعض عقود الزواج التي تمت بغير إرادة البنت، لأن الشرع لم يجز لأحد أن يتصرف في مالها وملكها بغير إذنها،فكيف بمصيرها ومستقبل حياتها ؟! بل رغبت السنة آباء البنات أن يشاوروا أمهات بناتهن في أمر زواجهن، أي يشاور الرجل زوجته عند ترويج ابنتهما، وفي هذا جاء الحديث الذي رواه الإمام أحمد : ( آمروا النساء في بناتهن ). وذلك أن الأم أعلم بابنتها من الأب، فهي باعتبارها أنثى تعرف اتجاهها وعواطفها، والبنت تبوح لأمها عن أسرارها بمالا تجرؤ أن تبوح به لوالدها.
وبعد بناء الأسرة ينبغي للزوجين أن يتفاهما ويتشاورا فيما يهم الحياة المشتركة بينهما، وفيما يهم كل واحد منهما على حدة، وفيما يهم حياة ذريتهما ومستقبلها . ولا يجوز أن يستهان برأي المرأة هنا، كما يشيع عند بعض الناس، فكم من امرأة كان رأيها خيراً وبركة على أهلها وقومها. وما كان أحصف رأي خديجة وموقفها في أول ساعات الوحي، ودورها في تثبيت فؤاد النبي، والذهاب معه إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، ليطمئنه ويبشره. وكذلك رأي أم سلمة يوم الحديبية.
ومن الروائع القرآنية :التنبيه على ضرورة التشاور والتراضي بين الزوجين فيما يتصل برضاع الأولاد وفطامهم، ولو بعدالانفصال بينهما. يقول تعالى:( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . . . )، إلى أن قال :( فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) .
الشورى في حياة المجتمع والدولة :
أما الشورى في حياة المجتمع والدولة المسلمة، فقد جعلها القرآن من المكونات المهمة للجماعة المسلمة،وذلك في القرآن المكي الذي يرسي القواعد، ويضع الأسس للحياة الإسلامية. فقد ذكر الشورى في أوصاف المؤمنين، مقرونة بمجموعة من الصفات الأساسية التي لا يتم إسلام ولا إيمان إلا بها.
وهي: الاستجابة لله تعالى، وإقام الصلاة، والإنفاق مما رزق الله، وهذا ما ذكر في السورة التي تحمل اسم (الشورى) يقول تعالى ( وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، إلى أن قال : ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). والمراد بقوله (وأمرهم): الأمر العام الذي يهم جماعتهم، ويؤثر في حياتهم المشتركة . وهو (الأمر) الذي أمرالله تعالى رسوله بالمشاورة فيه. فقد قال تعالى في سورة آل عمران من القرآن المدني: (وشاورهم في الأمر).
وقد جاء هذا الأمر من الله ورسوله بعد غزوة ( أحد)، التي شاور النبي فيها أصحابه، ونزل عن رأيه إلى رأي أكثريتهم، وكانت النتيجة ما أصاب المسلمين من قرح، وما اتخذه الله من شهداء: سبعين من خيار الصحابة، منهم حمزة ومصعب وسعد بن الربيع وغيرهم . ومع هذا أمر الله رسوله بالمشاورة لهم، ومعناه : استمر على مشاورتهم , ففيها خير وبركة، وإن جاءت النتيجة في إحدى المرات على غير ما تحب، فالعبرة بالعاقبة.
وقد كان النبي (ﷺ) أكثر الناس مشاورة لأصحابه: شاورهم في غزوة ( بدر)، قبل القتال،وفي أثنائه، وبعده. ولم يدخل المعركة إلا بعد أن اطمأن إلى رضا جمهورهم .
وشاورهم في (أحد)، فنزل عن رأيه إلى رأي الأكثرية التي رأت الخروج إلى القوم، لا القتال داخل المدينة. وشاورهم في (الخندق)، وهم أن يصالح (غطفان) على شيئ من ثمار المدينة، ليعزلهم عن قريش، وأبى ممثلو الأنصار ذلك، فوقف عند رأيهم.
وفي ( الحديبية ) شاور أم سلمة في امتناع أصحابه عن التحلل من إحرامهم بعد الصلح، فقد عز عليهم ذلك بعد نية العمرة. فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج إليهم، ويتحلل من إحرامه أمامهم دون أن يتكلم، فما أن رأوه فعل ذلك، حتى بادروا إلى الاقتداء به.
والإسلام كما يأمر الحاكم أن يستشير، يأمر الأمة أن تنصح له، كما جاء في الحديث الصحيح : (الدين النصيحة. . . . . . . . لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ). وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامة، تشمل الحكام والمحكومين كافة، كذلك فريضة التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، التي لا نجاة للإنسان من خسران الدنيا والآخرة إلا بها. فليس في المسلمين أحد أكبر من أن يوصي وينصح، ويؤمر وينهى. وليس فيهم أحد أصغر من أن يوصي وينصح ويأمر وينهى . وقد كان النبي (ﷺ) يشار عليه بالرأي مخالفاً لرأيه فيأخذ به، ويدع رأيه الشخصي.
وقد بعث أبا هريرة يبشر الناس بأن : ( من قال – لا إله إلاالله – دخل الجنة ) فخشي عمر أن يفهمها الناس فهما مغلوطا، ويفصلوا الكلمة عن العمل، ولذا أوقف أبا هريرة، وبين للرسول خوفه من أن يتكل الناس على ذلك قائلاً: فخلهم يعملون، فقال الرسول (ﷺ) :( فخلهم يعملون).
وقال أبو بكر في خطابه السياسي الأول بعد توليه الخلافة، يبين منهجه في الحكم : ( إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة إلي عليكم ) . وقال عمر : أيها الناس، من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومني.
فقال له أحدهم : لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا!
فقال عمر : الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوّم عمر بحد سيفه!
وقال له بعضهم يوماً : اتق الله يا عمر ا فأنكر عليه بعض من عنده أن يقول ذلك لأمير المؤمنين فقال عمر : دعه. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها.
بل إن الرسول يشرع المعارضة المسلحة للأمير الفاجر بشرطين:
الأول: الانحراف البين عن منهج الإسلام في عقيدته أو شريعته، وهو ما أطلق عليه الحديث النبوي : ( الكفر البواح ). فقد أوصى الرسول(ﷺ) من بايعه من أصحابه أن يصبروا على أمرائهم وإن استأثروا، بعض المكاسب الدنيوية دونهم، قال : ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
والثاني: أن تكون هناك قدرة على إزالة المنكر، دون أن يترتب على إزالته منكر أكبر منه. وإلا وجب تحمل المنكر الأدنى مخافة وقوع المنكر الأعلى. بنا ء على قاعدة ارتكاب أخف الضررين،وأهون الشرين.
والقرآن الكريم ينقللنا صورة طيبة عن الحكم الذي يقوم على الشورى، ممثلاً في ملكة سبأ التي فاجأها كتاب سليمان عليه السلام يحمله الهدهد، فجمعت قومها وقالت: ( يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون، قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ، قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون، وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون… ( الآيات.
وقد انتهى هذا السلوك الشوري الحكيم بالملكة الرشيدة إلى أن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين . فنجت ونجا معها قومها من حرب خاسرة، وكسبت بذلك الدنيا والآخرة.
وينقل القرآن صورة أخرى مظلمة عن الحكم الذي يقوم على التأله والتسلط، مثل حكم فرعون الذي قال للناس : ( أنا ربكم الأعلى )، (ما علمت لكم من إله غيري)، والذي لا يستشير في الأمور الهامة إلا بطانته الخاصة، كما رأينا ذلك في قصة فرعون مع موسى، حين حاور فرعون فأفحمه، فهدده بالسجن، فقال موسى: ( أو لو جئتك بشيء مبين ، قال فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ) . فهذه ليست استشارة حقيقية، لأنها تخص ( الملأ حوله) فقط، ثم هي استشارة موجهه، فهو لا يأخذ رأيهم في شأن موسى وماذا تكون رسالته، وماحقيقة أمره؟ بل حكم عليه قبل أن يسألهم الرأي: ( إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره)
وقد بين القرآن حقيقة حكم فرعون، وموقفه من رعيته حين قال: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، إنه كان من المفسدين) . فهذا( العلو) في الأرض هو ما نعبر عنه في لغة السياسة المعاصرة بكلمة (الطغيان). وقدكرر القرآن ذلك في وصف فرعون:( إنه كان عالياً من المسرفين ). ولم يكن علو فرعون وطغيانه على بني إسرائيل وحدهم، بل على المصريين أيضاً، إذا خطر لأحدهم أو لفئة منهم أن يخرجوا عن خطة، ويتمردوا على ربوبيته. وهذا ما تجلى واضحا في موقفه من السحرة الذين جلبهم من كل صوب لينصروه على موسى،بعد أن تبين لهم، حين آمنوا برب هارون وموسى، بعد أن تبين لهم الحق من الباطل. ( قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) .
وانظر إلى قوله: ( آمنتم له قبل أن آذن لكم ) إنه يريد أن يحجر على عقول الناس وقلوبهم، فلا يجوز لعقل أن يقتنع بشيء ولا لقلب أن يؤمن بأمر،إلا بإذنه وبعد تصريح منه !! لقد ذم القرآن فرعون، وذم القوى الدنسة المتحالفة معه،مثل ( قارون) الذي يمثل الرأسمالية البشعة الجشعة، التي لا ترى لأحد عليها حقا فيما يملك من مال. كما جسدها قارون بقوله: ( إنما أوتيته على علم عندي ). ومثل هامان الذي يمثل السياسيين النفعيين الذين يضعون قدراتهم الذهنية والتنفيذية في خدمة الطاغية الأكبر. فهو عقله المفكر، وساعده المنفذ!
كما شمل القرآن بالذم أموال الطغاة من الجنود الذين يعتبرون أدوات في أيديهم، يستقدمونها لجلد الشعوب وقهرها، ولهذا قال القرآن: ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين). ويقول عن فرعون: ( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) . وكلمة ( الجنود) تشمل كل أعوان الطاغية من عسكريين ومدنيين.
القرآن يحارب الطغيان والاستبداد من عدة نواح:
لقد ذم القرآن قوم نوح على لسانه بقوله: (رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً) . وذم عاداً قوم هود بقوله: ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة). وذم قوم فرعون بقوله : ( فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين). وعرض القرآن لنا صوراً جمة من مشاهد الآخرة، وفيها يتلاوم السادة الكبراء المضلون،وأتباعهم المضللون، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويحاول كل فريق أن يلقي بالتبعة على الآخر.
ولكن الله يحكم على الجميع بأنهم من أهل النار. ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ). ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم،وما هم بخارجين من النار).
إن أساس قبول القيادة للأمة في الإسلام هو: الرضا والبيعة الاختيارية. فمن رضيه المسلمون إماماً إي أميراً ورئيساً لهم، وبايعوه على ذلك، فهو الولي الشرعي الذي تجب طاعته في المعروف. وتجب المناصحة له بالحق، والمعاونة له على كل خير.
والإسلام لا يحب أن يؤم رجل الناس في صلاة الجماعة وهم له كارهون، فكيف يقبل أن يقود رجل الأمة كلها في شئونها العامة، وهي له كارهة، وبه ضائقة، وعليه ساخطة؟ جاء في الحديث الشريف : ( ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً : رجل أم قوم وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان).