لم يرد للسبحة ذكر في كتاب الله تعالى ولا في الأحاديث الشريفة ولا في كلام الصحابة ، وهي من البدع الداخلة في العبادة، أما السنة في إحصاء ما ورد من الذكر معدودًا فهي العقد بالأنامل، وأما الذكر الكثير فلا حاجة إلى عده فإن العدد يشغل القلب عن المذكور فلا يحصل المراد منه.
يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:
لم يرد للسبحة ذكر في كتاب الله تعالى ولا في الأحاديث الشريفة ولا في كلام الصحابة (رضي الله عنهم) ، ونقل شارح القاموس عن الأزهري أن هذه اللفظة مولدة لم تعرفها العرب ، ويدخل في هذا النفي أنها لم ترد في كلام أحد ممن يحتج بعربيته بعد الإسلام ، ونقل عن شيخه أنها حدثت في الصدر الأول للاستعانة بها على التسبيح : “كنا نرى هذه السبح في أيدي القسيسين من النصارى والرهبان والراهبات ونسمع أنها مأخوذة عن البراهمة” .
ولما زرت الهند رأيت فيها بعض الصوفية من البراهمة والمسلمين ، ورأيتهم يحملون السبح ويعلقونها في رقابهم ، والظاهر أن المسلمين أخذوها أولاً عن النصارى لا عن البراهمة ؛ لأنهم ما عرفوا البراهمة فيما يظهر لنا إلا بعد فتحهم للهند ، وأما النصارى فكانوا في مهد الإسلام عند ظهوره ( جزيرة العرب ) وفي البلاد المجاورة له كالشام ومصر، فلا بد أن يكونوا قد أخذوا السبحة عنهم فيما أخذوه من اللباس والعادات.
والأمر في السبحة ينبغي أن يكون أشد من أخذ غيرها عنهم ؛ لأنها تدخل في العبادة وتعد شعارًا .
ولكنها صارت معتادة وجماهير الناس يخضعون للعادة ما لا يخضعون للحق، ألا ترى كيف يقيمون القيامة في كل قطر عن من يستحدث ثوبًا أو ماعونًا أو عادة لغيرهم وينكرون عليه ويقولون : إنه فاسق أو مبتدع أو كافر ؟
ثم هم لا يتركون شيئًا مما استحدثه من ذلك من قبلهم وصار عادة لهم بل ربما ينكرون تركه ويعدونه تركًا لشيء من شعائر الدين أو فرائضه .
فالسبحة من البدع الداخلة في العبادة ، فكان الظاهر أن يتشدد في تحريمها أكثر مما يتشدد بعضهم في حظر أزياء الكفار لا أن يقولوا : إن الذكر بها أفضل .
فإن قالوا : إنهم وجدوا لها فائدة في ضبط الذكر الكثير الذي يفرضه عليهم شيوخ الطريق، نقول : يلزمهم بهذا أن يبيحوا كل ما توجد له فائدة من البدع الدينية .
فإن قالوا : نفعله على أنه من طرق التربية العادية عند الصوفية ولا نقول : إنه من أمر الدين، نقول : يلزمهم القول بمثله في كل العادات وهو الصواب ، ولكن قلما يقولون به فيما يحدث ويتجدد .
على أنه لا يمكن الجواب عن شيء من بدع المتصوفة بغير هذا وإن لم يسلمه لهم الفقيه في السبحة ونحوها .
ولا يغترنّ أحد بالأبيات التي نظمها بعض الجهلاء في إحصاء تركة النبي ﷺ إذ ذكر السبحة في أولها بقوله : ( مخلف طه سبحتان ومصحف ) فهذا من الأباطيل التي اخترعها الجاهلون ، ولم يترك النبي ﷺ مصحفين ولا مصحفًا ، ولم يكن القرآن في عهده مجموعًا في المصحف وإنما كان مكتوبًا في صحف وعظام وغير ذلك وكانت هذه المكتوبات متفرقة وكانت العمدة في نشره وإقرائه حفظ القراء له حتى جمع في خلافة أبي بكر ووزعت المصاحف على الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين .
أما السنة في إحصاء ما ورد من الذكر معدودًا فهي العقد بالأنامل أي وضع رأس الإصبع على عقدها ، وفي كل إصبع ثلاث عقد .
وكان للعرب اصطلاح في العقد يشيرون بها إلى جميع الأعداد، قيل : كانوا يعقدون الآحاد والعشرات باليمنى والمئين والألوف باليسار ، روى أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : ( رأيت رسول الله ﷺ يعقد التسبيح ) وروى أحمد والترمذي وأبو داود وابن حبان وغيرهم بأسانيد مختلفة أن النبي ﷺ أمر النساء بالتسبيح والتهليل وأن يعقدن بالأنامل .
قالت راوية الحديث يسيرة المهاجرة رضي الله عنها أنه قال : ( عليكم بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات ) أي فتشهد لهن يوم القيامة .
وأما الذكر الكثير فلا حاجة إلى عده فإن العدد يشغل القلب عن المذكور فلا يحصل المراد منه . وهو الذكر الذي قال فيه محيى الدين بن عربي :
بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب