من أدب الدعاء ألا يخص الإمام نفسه بدعاء دون المأمومين، وإنما يستحب تعميم الدعاء إذا دعا مع الجماعة، كما في دعاء القنوت وفي خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء، أما المواطن التي يدعو فيها كل من الإمام والمأموم لنفسه كما هو الحال في الدعاء بين السجدتين والدعاء في السجود وبعد التشهد فلا حرج أن يدعو كلٌ لنفسه بصيغة الإفراد وإن كان الدعاء بصيغة الجمع أفضل.
يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:
قرر العلماء أنه يستحب تعميم الدعاء إذا دعا مع جماعة كما في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء ودعاء القنوت في الصلاة ونحوها.
قال الحافظ العراقي: [من أدب الدعاء أنَّ مَن دعا بمجلس جماعةٍ لا يخص نفسه بالدعاء مِن بينهم، أو لا يخص نفسه وبعضَهم دون جميعهم … ويتأكد استيعاب الحاضرين على إمام الجماعة ، فلا يخص نفسه دون المأمومين، لما روى أبو داود والترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يؤم رجلٌ قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم) قال الترمذي: حديث حسن.
والظاهر أن هذا محمولٌ على ما يشاركه فيه المأمومون، كدعاء القنوت ونحوه، فأما ما يدعو كل أحدٍ به كقوله بين السجدتين:اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، فإن كلاً من المأمومين يدعو بذلك، فلا حرج حينئذ في الإفراد، إلا أنه يحتمل أن بعض المأمومين يترك ذلك نسياناً أو لعدم العلم باستحبابه ، فينبغي حينئذ أن يجمع الضمير لذلك] طرح التثريب في شرح التقريب 2/136-137.
والحديث الذي ذكره الحافظ العراقي تكلم فيه المحدثون وكثير منهم لم يوافق الترمذي في تحسينه، حتى قال ابن خزيمة إنه موضوع، وضعفه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والعلامة الألباني وغيرهم .انظر: ضعيف الترغيب والترهيب 2/201.
وقد فصَّل العلامة الألباني الكلام على هذا الحديث من رواية أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:( لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم، ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) وبيَّن أنه حديث ضعيف مضطرب وقد حكم ابن خزيمة بالوضع على الشطر الثاني من الحديث – ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم – وأقره ابن تيمية وابن القيم، وذلك لأن عامة أحاديث النبي ﷺ في الصلاة وهو الإمام بصيغة الإفراد، فكيف يصح أن يكون ذلك خيانة لمن أمهم؟ فهذا هو الصواب أن هذه الزيادة -ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم- لا تصح بل هي منكرة لمخالفتها لأدعية النبي ﷺ التي كان يدعو بها في الصلاة وهو إمامهم. انظر تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 278-280.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد[ سئل عن قوله ﷺ: (لا يحل لرجل يؤم قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم). فهل يستحب للإمام أنه كلما دعا الله عز وجل أن يُشرك المأمومين؟ وهل صح عن النبي ﷺ أنه كان يخص نفسه بدعائه في صلاته دونهم؟ فكيف الجمع بين هذين؟
فأجاب: الحمـد للَّه رب العالمين.
-قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال للنبي ﷺ: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة. ما تقول؟ قال: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، فهذا حديث صحيح صريح في أنه دعا لنفسه خاصة، وكان إماماً.
-وكذلك حديث عليٍ في الاستفتاح الذي أوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، فيه: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
-وكذلك ثبت في الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)، (اللهم، طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم، نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس).
وجميع هذه الأحاديث المأثورة في دعائه بعد التشهد من فعله، ومن أمره، لم ينقل فيها إلا لفظ الإفراد. كقوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم،ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
وكذا دعاؤه بين السجدتين، وهو في السنن من حديث حذيفة، ومن حديث ابن عباس، وكلاهما كان النبي ﷺ فيه إماماً، أحدهما بحذيفة، والآخر بابن عباس. وحديث حذيفة: (رب اغفر لي، رب اغفر لي)،
وحديث ابن عباس فيه: (اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)، ونحو هذا.
فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن تدل على أن الإمام يدعو في هذه الأمكنة بصيغة الإفراد. وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك. حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية.
وإذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور ـ إن صح ـ فالمراد به الدعاء الذي يُؤمِّن عليه المأموم ـ كدعاء القنوت ـ فإن المأموم إذا أَمَّن كان داعياً، قال الله تعالى لموسى وهرون: {قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا} سورة يونس الآية 89، وكان أحدهما يدعو، والآخر يؤمن. وإذا كان المأموم مؤمناً على دعاء الإمام، فيدعو بصيغة الجمع، كما في دعاء الفاتحة في قوله: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}، فإن المأموم إنما أمَّن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعاً، فإن لم يفعل، فقد خان الإمام المأموم.
فأما المواضع التي يدعو فيها كل إنسان لنفسه ـ كالاستفتاح، وما بعد التشهد، ونحو ذلك ـ فكما أن المأموم يدعو لنفسه، فالإمام يدعو لنفسه. كما يسبح المأموم في الركوع والسجود، إذا سبح الإمام في الركوع والسجود، وكما يتشهد إذا تشهد، ويكبر إذا كبر، فإن لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط. وهذا الحديث لو كان صحيحاً صريحاً معارضــاً للأحاديــث المستفيضــة المتواترة، ولعمل الأمة، والأئمة، لم يلتفت إليه، فكيف وليس من الصحيح، ولكن قد قيل: إنه حسن، ولو كان فيه دلالة لكان عاماً، وتلك خاصة، والخاص يقضــي على العــام. ثم لفظه (فيخص نفسه بدعــوة دونــهم)، يراد بمثــل هذا إذا لم يحصــل لهم دعاء، وهذا لا يكون مع تأمينهم. وأما مع كونهم مؤمِّنـين على الدعــاء كلما دعــا، فيحصــل لهم كما حصل له بفعلهم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع: (اللهم إنا نستعينك، ونستهديك) إلى آخره. ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة على وجهها.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/116-118.
وبيَّن العلامة ابن القيم هدي النبي ﷺ في الدعاء فقال: [وكان ﷺ يدعو في صلاته فيقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، وكان يقول في صلاته أيضاً: اللهم اغفر لي ذنبي ووسع لي في داري وبارك لي فيما رزقتني، وكان يقول اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، وكان يقول في سجوده: رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وقد تقدم ذكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع].
ثم قال العلامةابن القيم: [والمحفوظ في أدعيته ﷺ في الصلاة كلها بلفظ الإفراد كقوله: رب اغفر لي وارحمني واهدني وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب الحديث.
وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي ﷺ:( لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) قال ابن خزيمة في صحيحه: وقد ذكر حديث اللهم باعد بيني وبين خطاياي الحديث، قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم.] زاد المعاد 1/261-264.
وقد فسر العلامة علي القاري خيانة الإمام المذكورة في الحديث بقوله: [ قال الطيبي: نسب الخيانة إلى الإمام لأن شرعية الجماعة ليفيض كل من الإمام والمأموم الخير على صاحبه ببركة قربه من الله تعالى، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه، قلت: وإنما خص الإمام بالخيانة فإنه صاحب الدعاء، وإلا فقد تكون الخيانة من جانب المأموم] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3/157.
وخلاصة الأمر أن الإمام يدعو بصيغة الجمع له وللمصلين في المواطن التي يجهر فيها بالدعاء ويؤمن المصلون على دعائه، كدعاء القنوت في الصلاة، والدعاء في خطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء ونحوها، وأما المواطن التي يُسِر فيها بالدعاء، كالدعاء عند استفتاح الصلاة، والدعاء في السجود، والدعاء بين السجدتين، والدعاء في آخر التشهد وقبل السلام، فهذه المواطن يجوز للإمام أن يدعو لنفسه خاصة، والمأمومون كلٌ يدعو لنفسه. وعليه فإذا خص الإمام نفسه بالدعاء في هذه المواطن فلا يعتبر خائناً للمأمومين، هذا إن صح الحديث، وهو لم يصح.