هناك إجماع من الفقهاء على حرمة أكل الخنزير، وكل ما اشتق منه ما لم يتحول إلى شيء آخر عند من يقولون باستحالة النجاسة ، أما عن حكم طهارته أو نجاسته فالجمهور على أنه نجس، وبعض من الفقهاء يحكمون بطهارته مع حرمة أكله، أما جلده فيطهر بالدباغ والمعالجة كغيره من جلود الميتة .
وما نرجحه أن أكل لحم الخنزير ومشتقاته حرام ، لكن هذه المشتقات إذا عولجت كيميائيا حتى تحولت إلى شيء آخر أصبحت طهارة وبالتالي يجوز استخدامها في الأدوية ومستحضرات التجميل والأطعمة وكل شيء، أما إن كانت هذه الشحوم تضاف إلى الأشياء دون معالجة فلا يجوز أكلها ولا التداوي بها إلا عند الضرورة التي تجيز أكل الميتة والتداوي بالحرام.
وكذلك الجلد إذا طهر بالدباغ ونحوه صار طاهرا يجوز استعماله في الأحذية والملابس وغير ذلك .
يقول الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي-رحمه الله تعالى- :-
الذي تدل عليه صحاح الأحاديث: أن الدِّباغ يطهر الجلود، حتى جلد مالا يؤكل لحمه، لحديث: “أيما إهاب دبغ فقد طهر” (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس، وصححه الألباني في غاية المرام (28) و في صحيح الجامع الصغير(2711) وعند مسلم وأبي داود: “إذا دبغ الإهاب فقد طهر” صحيح الجامع (511) ) .
وهذا يشمل أي إهاب أو جلد، حتى جلد ما لا يؤكل لحمه، بل حتى جلد الكلب والخنزير كما هو رأي أبي يوسف وداود الظاهري.
وقد سئل ابن تيمية عن جلود الحُمُر؛ وجلد ما لا يؤكل لحمه، والميتة: هل تطهر بالدباغ أم لا؟
فأجاب بعد حمد الله: –
أما طهارة جلود الميتة بالدباغ، ففيها قولان مشهوران للعلماء في الجملة:
أحدهما: أنها تطهر بالدباغ. وهو قول أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين.
والثاني: لا تطهر. وهو المشهور في مذهب مالك، ولهذا يجوز استعمال المدبوغ في الماء دون المائعات، لأن الماء لا ينجس بذلك، وهو أشهر الروايتين عن أحمد أيضا، اختارها أكثر أصحابه، لكن الرواية الأولى هي آخر الروايتين عنه.
وقد احتج القائلون بالدباغ بما في الصحيحين عن عبد الله بن عباس: أن النبي ﷺ مر بشاة ميتة فقال: “هلا استمتعتم بإهابها؟!” قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة. قال: “إنما حرم من الميتة أكلها”. وفي رواية لمسلم: “ألا أخذوا إهابها! فدبغوه فانتفعوا به”. وعن سودة بنت زمعة زوج النبي ﷺ قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مَسْكها، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شَنًّا. وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “إذا دبغ الإهاب فقد طهر”. قلت: وفي رواية له عن عبد الرحمن ابن وعلة: إنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس، نؤتى بالكبش قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ونؤتى بالسقاء يجعلون فيه الدلوك؟ فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: “دباغه طهوره”.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي ﷺ أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي. وفي رواية عن عائشة قالت: سئل رسول الله ﷺ عن جلود الميتة؟ فقال: “دباغها طهورها” رواه الإمام أحمد والنسائي. وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ مر ببيت بفنائه قِرْبة معلّقة فاستقى، فقيل: إنها ميتة! فقال: “ذكاة الأديم دباغه” رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:-
وعلى هذا فللناس فيما يطهره الدباغ أقوال:
قيل: إنه يطهر كل شيء حتى الخنزير . كما هو قول أبي يوسف وداود.
وقيل: إنه يطهر كل شيء سوى الخنزير. كما هو قول أبي حنيفة.
وقيل: يطهر كل شيء إلا الكلب والخنزير. كما هو قول الشافعي، وهو أحد القولين في مذهب أحمد على القول بتطهير الدباغ، والقول الآخر في مذهبه ـ وهو قول طوائف من فقهاء الحديث ـ إنه إنما يطهر ما يباح بالذكاة، فلا يطهر جلود السباع) .هـ.
والذي يترجح لي ـ كما ذكرت أولا ـ هو أن الدباغ يطهر كل شيء كما هو ظاهر الحديث، حتى الخنزير، لأنه كما طهر الميتة ـ وهي محرمة مع لحم الخنزير في سياق واحد ـ ينبغي أن يطهر الخنزير أيضا.
ويقول الشيخ عطية صقر ـ رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر ـ (رحمه الله) :
جمهور الفقهاء على نَجاسته حيًّا ومَيِّتًا بدليل هذه الآية ، وإن كان في الدليل مناقشة ، فقد يراد بالنجاسة النجاسة الحُكميّة وهي حُرمة الأكل، وليس النجاسة العَينيّة ، كنجاسة المشركين في قوله تعالى : ( إنّما المُشرِكُونَ نَجَسٌ ) (سورة التوبة : 28) فالمراد نجاسة الاعتقاد وليس النجاسة العينية ، حيث لم يقل أحد بأن المُشرك ينجُس . على مثل ما جاء في قوله تعالى : ( إنّما الخَمْرُ والمَيْسِر والأنْصابُ والأزْلامُ رِجس مِنْ عَمَل الشَّيْطان ) (سورة المائدة :90) ، فنَجاسة الأنصابِ والأزْلام حكميّة وهي الحرمة ، وليست نجاسة عينية .
ولما كانت الآية لا تدلّ دَلالة قطعيّة على نَجاسة الخِنزير نَجاسة عَيْنيّة استدلّ بعض العلماء على ذلك بالقِياس على نجاسة الكَلْب ؛ لأنه أسوأ حالًا منه حيث لا يجوز الانتفاع به ، ولكن هذا الدليل غير مسلّم ؛ لأن الحشرات لا يُنتفع بها ومع ذلك هي طاهرة .
ومن هنا قال النووي : ليس لنا (أي الشافعية) دليل على نجاسة الخنزير ، بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأر ، وقال ابن المنذر : الإجماع على نجاسة الخنزير ، لكن دعوى الإجماع فيها نظر ؛ لأن مالكًا يُخالف فيه ويقول بطهارته .
نخلُص من هذا إلى أن الخنزير يحرُم أكله ، أما طهارته فالجمهور على أنه نجس ، والبعض قال : إنه طاهر كالحِمار والذِّئب يحرُم أكلهما ومع ذلك طاهِران .
وكل حيوان لم يُذبح ذبحًا شرعِيًّا أو كان ممّا يحرُم أكله حتى لو كان طاهرًا حال حياته كالحمار ، فإنه يعتبر (مَيتة) ، ولحم الميتة مع حُرمة أكله نجس ، والنجاسة تشمَل الجلد والشَّعر وكل ما يتَّصل به ، غيرَ أن جلد الميتة يطهُر بالدّباغ عند الجمهور ، إلا جلد الكَلْب والخنزير فلا يُطهِّره الدّباغ ، ومثله الفِراء والشّعر ، ومذهب داود الظاهري وأبي يوسف أن الدّباغ يطهِّر كل جلود الميتة حتى الكلب والخنزير ؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك ]من هذه الأحاديث ما رواه مسلم : ” أيُّما إهاب دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ” ، وما رواه الدار قطني : ” طهور كلِّ أديم دِباغِه “[ لم يُفرَّق فيها بين الكلب والخنزير وما سواهما ، ذكره النووي في شرح صحيح مسلم ، ونقله الشوكاني في (نيل الأوطار : ج 1 ص 75) وعليه فلا يجوز استعمال جلدِ الخنزير وشعره في ملابس أو أحذية أو غيرهما على رأي جمهور العلماء .
هذا هو حكم شعر الخنزير إذا أُخذ بعد موتِه ، أما إذا أخذ حال حياته فإن حكمه كحكم مَيتتِه ، ومَيْتتُه نَجِسة ، فشعره بالتالي نجس ، وذلك لحديث رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين : “ما قُطِعَ من حَيٍّ فهو كمَيتِته” ، (الإقناع للخطيب ج 1 ص 24) واستثنى العلماء من هذا الحديث شعر وصوف ووَبَرٍ مأكول اللّحم فهي طاهرة ، وعلى هذا لا يجوز استعمال شعر الخنزير إذا قُصَّ منه وهو حَيّ في عمل الفَراجين ” الفرش” حتى لو غُلِيَ هذا الشعر وعُقِّم سواء أخذ حال الحياة أو بعد الموت ؛ لأن هذه الإجراءات الصِّحِّيّة لا تطهِّره ، بل هي للتأكيد من خلوه من الأمراض المُعدِية ، والنّجاسة باقية ؛ لأنها نجاسة عين لا تطهُر بهذه الوسائل مطلقًا ، بخِلاف الشيء الطاهر الذي لاقته النجاسة فإنّه يقال عنه إنه مُتنجِّس ، ويطهُر بالغُسل بالماء على ما هو مفصل في كتب الفقه .
هذا وقد يقرأ في بعض الكتب أن شعر الخنزير يجوز الانتفاع به في خِرازة النعال ، لما رُوِيَ أن رجلًا سأل النبي ـ ﷺ ـ عن ذلك فقال : ” لا بأس ” ، كما رواه ابن خويز منداد ، فكانت الخِرازة به موجودة في عهد النبي ـ ﷺ ـ وبعده ، ولم يُعلَم أنه أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده .
لكن جواز خِرازة النعال بشعر لا ينفي نجاسته ، ولذلك لا يجوز المسح على النعل المَخروز به ولا الصلاة فيه ، وإن أجاز بعضهم ذلك فهو عند الضرورة.
وقد أجاز المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء استعمال أدوية لعلاج شلل الأطفال بها أنزيمات من الخنزير على أساس الاستحالة أو الضرورة حيث لا يوجد لها بديل حتى الآن .
فقد نظر المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء في الموضوع وبعد التدقيق في مقاصد الشريعة، ومآلاتها والقواعد الفقهية وأقوال الفقهاء فيما عُفي عنه قرر ما يلي:
أولاً: إن استعمال هذا الدواء السائل قد ثبتت فائدته طبياً وأنه يؤدي إلى تحصين الأطفال ووقايتهم من الشلل بإذن الله تعالى، كما أنه لا يوجد له بديل آخر إلى الآن، وبناء على ذلك فاستعماله في المداواة والوقاية جائز لما يترتب على منع استعماله من أضرار كبيرة، فأبواب الفقه واسعة في العفو عن النجاسات – على القول بنجاسة هذا السائل – وخاصة أن هذه النجاسة مستهلكة في المكاثرة والغسل، كما أن هذه الحالة تدخل في باب الضرورات أو الحاجيات التي تنـزل منـزلة الضرورة، وأن من المعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة هو تحقيق المصالح والمنافع ودرء المفاسد والمضار.
ثانياً: يوصي المجلس أئمة المسلمين ومسئولي مراكزهم أن لا يتشددوا في مثل هذه الأمور الاجتهادية التي تحقق مصالح معتبرة لأبناء المسلمين ما دامت لا تتعارض مع النصوص القطعية.
ويقول الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر ـ رحمه الله ـ :
يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ في سورة البقرة: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الآية : 173).، ويقول تعالى في سورة المائدة: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) (الآية: 3).
ويقول تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لَغْيرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الآية : 115).
ومن هذه النصوص القُرآنية الكريمة نفهم بوضوح أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد نصَّ على تحريم لحم الخنزير أكثر من مرة، وهذا يدُل على تحريم عينه في الأكل، سواء ذُبِحَ أَمْ لَمْ يُذْبح، وهذا التحريم يشمل اللحم والشحم والغضاريف وهي العِظام اللَّينة الطَّرية، وقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم لحم الخنزير، ومن يُنكر هذا يكون مُنْكِرًا لأمرٍ ثابت في الدِّين لا شَكَّ فيه ولا ريب في تصديقه. أهـ
ويقول الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إدريس ـ أستاذ بجامعة الأزهر:
حرّم الإسلام تناول لحم الخنزير وتضافرت الأدلة على ذلك، ومنها قول الله سبحانه: (قل لا أجدُ فيما أُوحيَ إليَّ محرَّمًا على طاعمٍ يَطعَمُه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا أو لحمَ خنزيرٍ فإنه رجسٌ أو فسقًا أُهِلَّ لغيرِ اللهِ به) وقوله تعالى: (حُرِّمَت عليكم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير) فظاهر هاتَين الآيتَين يفيد حرمة تناول لحم الخنزير، إلا أن العلماء قالوا بحرمة تناول جميع أجزائه كذلك وإن لم تكن من قبيل اللحم، وعلَّلوا تخصيص اللحم بالذكر في الآيتَين دون بقية أجزاء الخنزير بأن اللحم معظم المقصود من الخنزير، ولهذا فقد حكى الإمامان النوويّ وابن قدامة إجماع المسلمين على تحريم تناول أي جزء من الخنزير.
وقال ابن حزم: أجمَعَت أقوال العلماء على حرمته، فلا يَحلّ أكلُ شيء منه، سواءٌ في ذلك لحمُه أو شحمُه أو عصبُه أو غضروفُه أو حُشْوَتُه أو مخُّه أو أطرافُه أو غيرُ ذلك منه.
وإذا كان الشارع قد بيّن العلة من حُرمة تناوُلِه بأنه (رجس) أي نجس، والنجسُ يجب على المسلم اجتنابُه، إلا أنه لم يحرَّم لذلك فقط وإنما حُرِّم لخُبثه.