الحج عبادة فرضها الله تعالى، ونفذها رسوله ﷺ، وعلمها للمسلمين نظريا وعمليا، وقال لأصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع: ” خذوا عني مناسككم”، فتواترت عنه أعمال الحج تواترا عمليا نقلته أجيال الأمة، جيلا بعد جيل إلى اليوم.
والعبادات لا مجال فيها للابتداع أو للتغيير بحيث نغير زمانها أو مكانها أو كيفيتها، فالأصل فيها الاتباع والتسليم، ومن أحدث فيها ما ليس منها، فهو رد عليه، مرفوض شرعا، وهو بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ومن المقرر المعلوم أن الحج مرتبط بزمان محدد، كما أنه مرتبط بمكان معين، وكما لا يجوز نقل الحج من مكانه الخاص إلى مكان آخر، في المدينة أو في الشام أو في مصر مثلا، لا يجوز كذلك نقل الحج من زمانه المعلوم: يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم العيد (يوم الحج الأكبر) كما سماه القرآن، وأيام منى. التي قال الله تعالى فيها: (واذكروا الله في أيام معدودات، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) البقرة: 203.
وقال تعالى في بيان حكمة الحج: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) الحج: 28، فلا مناص من التعبد في هذه الأيام المعدودات والمعلومات.
فليس الحج المشروع هو قصد البيت الحرام، وعمل المناسك في أي وقت، فإن هذا هو (الحج الأصغر) الذي شرعه الإسلام طوال العام، وهو العمرة، وهو إحرام وطواف وسعي وحلق وتقصير، وثوابها عظيم، وهي كفارة لما قبلها من الذنوب. بخلاف الحج الأكبر، أو الحج الحقيقي، فهو في خمسة أو ستة أيام معلومة من السنة.
الحكمة من الحج وهدفه:
الحج يوحد الأمة فقد يغفل الكثير عن هدف كبير من الأهداف التي شرع لها الحج، وهو جمع هذا الحشد العظيم من أبناء أمة الإسلام، في زمان واحد، ومكان واحد، على عمل واحد، بلباس واحد، وبقصد واحد، وبحداء واحد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إن هذا المنسك العظيم يصهر ما بين الأمة من فوارق العرق والدين واللغة والإقليم والطبقة، ويوحدها مخبرا ومظهرا، حتى يشعر الجميع بأنهم (أمة واحدة) كما أراد الله لهم، لا أمم شتى كما أراد لهم أعداؤهم. أمة وحدتها العقيدة، ووحدتها العبادة، ووحدها التشريع، ووحدتها الأخلاق، ووحدتها الآداب، ووحدتها المفاهيم، ولا غرو أن سمى الله المسلمين في كتابه (أمة) فقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة: 143، وقال عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران: 110، وقال سبحانه: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92.
ولقد عرف خصوم الإسلام قيمة الحج في توحيد الأمة، وإيقاظها، وتعريفها بذاتها، وتنبيهها من غفلاتها.
فلينظر كل إنسان إلى ما يصنعه (مؤتمر الحج) الكبير بروحانيته وإيحاءاته وشعائره ومشاعره في أنفس المسلمين، وكيف يربطهم بأصولهم، ويذكرهم بهويتهم وتميزهم، ويعيد كلا منهم تائبا إلى ربه، طاهرا مغتسلا من خطاياه، كيوم ولدته أمه، فهو ميلاد جديد للمسلم. وأهم درس يتعلمه المسلم في الحج: أنه ينتمي إلى أمة كبيرة، أمة وحدة، أمة القبلة، وأمة التوحيد أمة ” لا إله إلا الله، محمد رسول الله “.
درس لا ينبغي أن ننساه:
ومن هنا كان علينا أن نتعلم من هذا المؤتمر الإسلامي العالمي، الذي لم يدع إليه ملك أو رئيس أو أمير، بل دعا إليه الله تبارك وتعالى، وفرضه على المسلمين مرة في العمر، ليخرج المسلم من نطاق المحلية إلى أفق العالمية، وليرتبط شعوريا وعمليا بأبناء الإسلام حيثما كانوا في مشرق أو مغرب، وليستفيد أهل الحل والعقد في الأمة من هذا الموسم الرباني لجمع كلمة الأمة على الهدى، وقلوبها على التقى، وعزائمها على الخير المشترك للجميع.
وعلى أهل العلم والفكر والدعوة في الأمة مقاومة النزعات العصبية والدعوات العلمانية التي تفرق الأمة الواحدة، وتمزق كيانها، وتحولها إلى أمم شتى، يجافي بعضها بعضا.
لقد كان من آثار الغزو الفكري الاستعماري للعالم الإسلامي: زحزحة المسلم عن الولاء لأمته المسلمة والاعتزاز بها، قبل الاعتزاز بالانتماء إلى القبائل والأمم، على نحو ما قال الشاعر المسلم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وسئل سلمان الفارسي: ابن من أنت؟ فقال: أنا ابن الإسلام!
فأصبح في الناس من لا يعتز إلا بوطنه أو بقومه، لا بمعنى أن يحب وطنه يهتم بأمره، ويسعى في رقيه، أو يحب قومه، ويعنى بأمرهم ونهوضهم ووحدتهم، فهذا لا حرج فيه، بل هو محمود ومطلوب شرعا. ولكن بمعنى تغيير الولاء للإسلام وأمته الكبرى، وتقديم الرابطة الطينية والعنصرية على الرابطة الإسلامية. وهذا تحول في موقف الإنسان المسلم والجماعة المسلمة، لم يعرف من قبل.
بين الأمس واليوم:
لقد كان وطن المسلم من قبل، يعني (دار الإسلام) على اتساعها، فكل أرض تجري فيها أحكام الإسلام، وتقام شعائره، ويعلو سلطانه، ويرتفع فيها الآذان، هي وطن المسلم: يغار عليه، ويدافع عنه، كما يدافع عن مسقط رأسه. وكان العالم ينقسم عند المسلم على هذا الأساس العقائدي: فهو إما دار إسلام، وإما دار كفر.
وكان قوم المسلم هم المسلمين أو الأمة الإسلامية، الذين جمعته بهم أخوة الإيمان، وعقيدة الإسلام (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات: 10، وكان أعداء المسلم هم أعداء الإسلام ولو كانوا ألصق الناس به وأقربهم إليه (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22.
فالمسلم حين يقف في صلاته مناجيا ربه بهذا الدعاء (اهدنا الصراط المستقيم) بصيغة الجمع هذه، يستحضر في حسه وذهنه أمة الإسلام جمعاء.
وحين يقرأ قول الله تبارك وتعالى في كتابه (يا أيها الذين آمنوا) يفهم أن هذا الخطاب موجه للمسلمين جميعا أينما كانوا.
وحين يقف الخطيب على المنبر يوم الجمعة، يدعو للمسلمين كافة، دون تفرقة بين إقليم وإقليم، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين لسان ولسان، بل يقول دائما: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين.
فإذا خص بلده يوما بالدعاء له بالنصر والرخاء تجده يقول: لبلدنا هذه خاصة ولسائر بلاد المسلمين عامة.
فالتفكير الإسلامي، الحس الإسلامي، لا يعرفان الإقليمية ولا العنصرية بحال من الأحوال.
صور رائعة في الفقه الإسلامي:
وفي الفقه الإسلامي نجد هذه الصورة المعبرة عن وحدة الأمة المسلمة، ووحدة الوطن الإسلامي، وذلك في ما ينقله العلامة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي حيث يقررون: أن الجهاد فرض عين إن هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على من يقرب من العدو أولا، فإن عجزوا أو تكاسلوا، فعلى من يليهم، ثم من يليهم، حتى يفترض ـ على هذا التدرج ـ على المسلمين شرقا وغربا. وهذا متفق عليه بين الأئمة جميعا.
والعجيب أن يقرر فقهاء الإسلام وجوب الدفاع عن سائر الأمة ـ عن البلد المسلم المعتدى عليه، وإن تقاعد أهله أنفسهم في الدفاع عنه، لأن هذا البلد ليس ملك أهله وحدهم، ولكنه ـ باعتباره جزءا من دار الإسلام ـ ملك للمسلمين جميعا، وسقوطه في يد الكفار خسارة هزيمة للمسلمين قاطبة. لذا كان تحريره مسؤولية الأمة كلها بالتضامن.
وصورة أخرى يذكرها ابن عابدين: امرأة مسلمة سبيت بالمشرق، وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر.
وقال الإمام مالك: يجب على المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.
وهكذا قرر القرآن وقررت السنة: أن المسلمين أمة واحدة ” يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم “، ” ومن لم يصبح ناصحا ـ أي مخلصا بارا ـ لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فليس منهم .
إن شعيرة الحج تعلمنا: أن نحيا بروح الأمة الواحدة، إن لم يكن عملا وتطبيقا، وهذا هو الواجب، فعلى الأقل فكراً وشعورا. (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) المؤمنون: 52.