الاهتمام بالعفة والفضائل من سمات الدين الإسلامي، والعقاب على الجريمة يستهدف إصلاح المجتمع بتحقيق الردع والزجر، وبسبب البعد عن روح التشريع ومقاصده، نظر البعض للحرية التي يضفيها الإسلام نظرة بمقتضاها استباح لنفسه أن ينشر أو يكتب ما يخالف الدين، معتقدا أن الإباحية تدخل ضمن الحرية الشخصية، وهذا ينهى عنه الإسلام.
العفة في الإسلام
يقول الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله:
لقد جاء الإسلام العظيم فعلَّمَ أتباعه العِفَّة في كل شيء: العفة في الثياب، حيث أمر بستر العورة للرجال والنساء، والعفة في النظرة، حيث أمر بغضِّ البصر، والعِفة في الكلمة، حيث أمر بأن تكون الكلمة طيبة، بل جعل الرسول ـ ﷺ ـ الكلمة الطيبة صدقة وعلَّم الإسلام أتباعه أيضًا الحياء: الحياء في التصرف، وفي القول، وفي النظر، وأخبرنا رسول الله ـ ﷺ ـ بأن الحياء لا يأتي إلا بخير، وأنه شطر الإيمان، إلى أحاديث كثيرة واردة في هذا الباب، كما علَّم الإسلام أتباعه ألا يُذيعوا مَفْسَدَة من المفاسد، أو يُشَّهِروا برذيلة من الرذائل، أو يُكْثِروا الحديث عن الإثم أو الذنب، حتى لا يكون ذلك وسيلة إلى إشاعة المفسدة، أو الجرأة على الجرائم.
وهَدي الإسلام يتجه إلى أن نحصر الجريمة في أضيق نطاق، وأن نأخذ صاحبها بعقابها دون إشاعة لها بقدر ما نستطيع، ونكاد نفهم هذا الهدي من قول الله ـ تبارك وتعالى ـ: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (النور:19).
وهذه الآية جاءت كما نعرف بسبيل الحديث عن موقف كان فيه افتراء وإثم وإشاعة لمثل هذه الرذائل التي لا يجوز نقلها، حتى ولو كانت حقيقية، فضلًا عن كونها مُفْترَاة أَوْ مَكْذوبة.
ترك العمل بالشريعة سبب الرذيلة
يقول الدكتور أحمد الشرباصي -رحمه الله-: ظل المسلمون على ذلك عهدًا طويلًا، حينما كانوا خاضعين لكتاب الله ـ تعالى ـ آخذين بسنة نبيه ـ ﷺ ـ ، ثم استبدت بهم الأهواء والشهوات، ووصلوا إلى درجة من التحلل لا يَحسن إطلاق كلمة عليها غير كلمة “الفجور”، فصار هناك فجور في الكلمة، ففريق من الناس يستعملون في كتاباتهم الكلمات الفاجرة التي تصف الرذيلة أو تُنَوِّه بالإثم، أو تستحسن الانحراف والانحلال، وهناك فجور بالصورة، فهناك مجلات تُعْنَى بنشر صور فاضحة، لا غرض منها ولا نتيجة لها إلا التحريض على التحلل، والحث على الإثم، والدفع إلى الرذيلة، وهناك فجور في الكلمة المنطوقة بعد فجور الكلمة المكتوبة، وأظن أن المستمع لحوار المتأثرين بهذا الفجور في مجتمعنا يسمع أوصاف من أوصاف الْعَورات، وشَتائم الآباء والأمهات، والوصم بقبائح الرذائل والفواحش، ما يدل فعلًا على أن الفجور قد استشرى على أيدي الذين لم يعرفوا عِفة، ولم يألفوا حياء، ولم يتأدبوا بأدب الإسلام العظيم المعلم للعفة والحياء والفضيلة.
عمر بن عبد العزيز ومحاربته للرذيلة
يقول الأستاذ الدكتور أحمد الشرباصي -رحمه الله-: يحضرني خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ كانت له وقفات في مثل هذا المجال، فعندما اطَّلَعَ على بعض أشعار للشاعر “نصيب” يذكر فيها صُورًا غرامية، ويُشَهِّر فيها ببعْض النساء، حَكَمَ باعتقاله ونفيه إلى مدينة “دابق”، وإبقائه فيها لا يخرج منها حينًا من الزمن، حتى تاب وأحضر من شَهِدَ له توبته عند الخليفة الراشد، وحينئذٍ سَمِحَ له بمغادرة القرية التي نفاه إليها.
وعَلِمَ خامس الراشدين أيضًا أن الشاعر “الأَحْوَص” له أشعار يتحَلَّلُ فيها، ويذكر صورًا تُثير، أو تُحَرِّض على الإثم أو الفتنة، فاعتقله ونقله إلى جزيرة تُسمى “دهلك” وهي جزيرة في بحر اليمن، ولما جاءه تابِعُه يستأذنه عند توليته الخلافة أن يدخل عليه الشعراء، جعل عمر يسأله عن أولئك الشعراء، فكلما ذكر له شاعرًا استشهد له عمر ببعض شعره الذي ذكر فيه لونًا من ألوان التحلل أو الحضِّ على الإثم، وقال: والله لا ألقاه أبدًا، ولا يدخل عليَّ، فيذكر له التابع اسمًا آخر، فيذكر له عمر بعض شعره الذي فيه شيء من هذا النوع المُتحلِّل، ويقول: والله لا ألقاه أبدًا، عليه لعنة الله، أو أبعده الله… ولم يأذن عمر في النهاية إلا لجرير الذي جاء ـ لا هاجيًا ولا مُتفحشًا في القول ـ وإنما جاء طالبًا بعض الرِّفد لأولاده، بعد أن أصابه الضُّر، وخرج جرير يقول: لقد خرجت من عند رجل يُعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، ومع ذلك فإني عنه راضٍ، وأُشْهِدُ الله أنه رجل صالح”.
محاربة الرذيلة في القرآن الكريم
كذلك نجد القرآن الكريم يُشير إلى محاربة هذا اللون من الأدب المُنْحَل، ومن الكتابة التي تدل فعلًا على قلة الأدب، وليست تدل على الأدب، ففي سورة لقمان نجد قول الله ـ تعالى ـ: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزْوًا أولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ. وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابِ أَلِيمٍ ) (لقمان:6 ـ7).
لقد قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية تشير إلى بعض الكفار، وهو النضر بن الحارث، الذي كان يسافر إلى بلاد غير مسلمة، ويستورد منها قصصًا تقص أخبارًا قديمة وأنباء مُبتذلة، وقد يكون بعضها صحيحًا وأكثرها عليلًا أو مُفْترًى، ثم يأتي ليَقُصَّ هذه القصص على العرب محاولًا بذلك صَرْفَهُم عن ذكر الله ـ تعالى ـ وهو القرآن الكريم، وعن سنة رسول الله ـ ﷺ .
ونحن الآن مبتلون بهذه البلوى، إننا مبتلون بصرف الأنظار عن الأدب الإسلامي، وعن الهَدي القرآني، وعن السنة النبوية، وعن القراءة الكريمة فيما يفيد وينفع، وبُلينا بأنواع دخيلة ومعيبة من الكتب والمجلات، والصحف والنشرات، والقصص والمسرحيات والأفلام، وغير ذلك، بحيث صارت المادة الإسلامية الدَّسِمَة التي يجب أن توضع في عقول الناشئة وفي قلوبهم وأذهانهم مُضَيَّعَة غريبة مجهولة، وقد نتساءل عن نُسخ المصحف التي يجب أن تُوضع في أيدي الشباب فلا نجدها، بينما نجد يد الشاب تتناول أسبوعيًّا مجموعة من القصص الرخيصة الرقيعة، ومجموعة من المجلات المُنْحَلَّة التي تُفَجِّر في صورتها وعبارتها وفي قصتها، فلا شك أن هذا صرف عن دين الله، وعن كتاب الله، وعن سنة رسول الله، وعن الأدب العربي الإسلامي القيِّم الذي يجب أن نُعْنَى به كأمة عربية مؤمنة، تريد أن تبني لها قوميَّة عربيًّة مؤمنة.
كان الأدب العربي السليم القويم في عصر الأمويين والخيار من العباسيين أَدَبَ جِدٍّ وبطولة وحماسة، وحتى في العصور الضعيفة، كان كثير من الأدب العربي مليئًا بالحديث عن الشجاعة والتضحية والجُرْأة والإقدام والدِّفاع عن الْحُرُمات والأوطان، وليس مملوءًا بهذه الصورة الفاحشة التي يتجه إليها مثل هؤلاء المتحللين من الكتاب.
إصلاح الشباب صلاحٌ للمجتمع
إن شبابنا ليسوا في حاجة إلى حديث عن الجسد والجنس والشهوة، بعد أن أصبحت الأبواب مُفتحة على سعتها أمام الشهوات والنزوات، بحكم مادية العصر. وبحكم التبرج الصارخ والتحلل الذائع، وإنما يحتاج شبابنا إلى التربية الدينية، والتوعية الروحية، والأخذ بمنهج الرجولة، ومسلك البطولة، ووسائل التماسك الخلقي والصفاء النفسي.
وإنها لجريمة في حق الوطن والمجتمع والشباب أن نضع بين أيديهم زادًا أو طعامًا خبيثًا، يتمثل في قصةٍ دَاعِرَة، أو قصيدة عابثة، أو صورة مَاجِنَة، أو خَبَر نَتِن الرائحة، فليتق اللهَ في الشباب أولئكَ الذين يتحدثون إليهم، أو يملكون وسيلة من وسائل التوجيه ولتتنبه الأمة إلى واجبها نحو المفسدين من أبنائها لتقيمهم على سواء الطريق.