الوفاء بالوعد واجب شرعي أوجبه القرآن، وأكدته السنة، وعظمت السنة في وجوبه حتى جعلت الإخلاف من شيم المنافقين، شريطة ألا يكون الوعد على فعل محرم أو ترك واجب فإخلافه في هذه الحالة واجب.
وعليه فلينتبه كل إنسان قبل أن يعد، أو يعاهد أخاه على شيء فإن علم من نفسه القدرة على الوفاء عاهد ووعد متلفظا بالمشيئة، فإن حدث له عذر كمرض، أو عدم توفر وسيلة للتنقل فلم يستطع الوفاء بوعده فلا شيء عليه.
حكم إخلاف الوعد والعهد:
يقول الشيخ محمد صالح المنجد:-
لا شك أن الوفاء بالوعد والعهد من صفات المؤمنين ، وأن إخلافهما من صفات المنافقين ، كما جاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : ” أربع مَن كنَّ فيه كان منافقاً ، ومن كانت فيه خصلة من أربعة : كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلفَ ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر – رواه البخاري ومسلم .
والمؤمن الذي يواعد الناس ويخلف وعده إما أن يكون معذوراً أو لا يكون كذلك ، فإن كان معذوراً فلا إثم عليه ، وإن لم يكن معذوراً : كان آثماً.
حالات يعذر فيها المؤمن إذا أخلف الوعد أو العهد:
لم يأتِ نصٌّ – فيما نعلم – يجمع ما استثني من تحريم إخلاف الوفاء بالوعد والعهد ، لكن يمكن أن يكون إخلاف الوعد أو العهد في حالات يُعذر فيها المؤمن ، منها :
أولا : النسيان . وقد عفا الله تعالى عن النسيان في ترك واجب أو فعل محرَّم ، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة آية: 284].
قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ.
فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: “أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”.
قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة آية: 285].
فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا الله تَعَالَى، فَأَنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} -قَالَ: نَعَمْ- {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} -قَالَ: نَعَمْ- {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} -قَالَ: نَعَمْ- {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} -قَالَ: نَعَمْ-.
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ،وفي رواية : ” قد فعلت ” – رواه مسلم من حديث ابن عباس – .
فمن واعد شخصاً ثم نسي الوعد أو نسي وقته : فلا حرج عليه .
ثانيا : الإكراه على إخلاف الوعد .
والإكراه : أحد الموانع التي تجيز للمسلم التخلف عن الموعد ، كمن حُبس أو مُنع من الوفاء بالوعد أو هُدّد بعقوبة تؤلمه .
فعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال : ” إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
رواه ابن ماجه ، وللحديث شواهد كثيرة ، وقد صححه الشيخ الألباني في ” صحيح الجامع .
ثالثا: الوعد على فعل محرَّم أو ترك واجب .
فمن وعد شخصاً على أن يفعل له محرماً ، أو يترك واجباً فإنه لا يجوز الوفاء به .
ويمكن الاستدلال بحديث عائشة – ويُسمَّى حديث بريرة – وهو في الصحيحين – وقد وعدت عائشة – رضي الله عنها – أهل بريرة على أن يكون ولاء بريرة لهم على حسب طلبهم مع أن عائشة – رضي الله عنها – هي التي ستعتقها ، ولم تفِ بهذا الوعد ؛ لأنهم خالفوا الشرع وهم يعلمون أن ” الولاء لمن أعتق ” ، فكيف تعتقها عائشة ويكون ولاء بريرة لهم ؟ .
قال الشافعي :
… فلما بلغهم هذا : كان مَن اشترط خلاف ما قضى الله ورسوله عاصياً ، وكانت في المعاصي حدود وآداب ، وكان من آداب العاصين : أن تعطل عليهم شروطهم لينكلوا عن مثلها ، وينكل بها غيرهم ، وكان هذا من أحسن الأدب . نقلا عن ” اختلاف الحديث “
رابعا: حصول طارئ مع صاحب الموعد من مرض ، أو وفاة قريب، أو تعطل، وسيلة النقل … الخ .
وهي أعذار كثيرة ، تدخل في قوله تعالى (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) .