يقول الشيخ يوسف القرضاوي: هذا اللون من الفقه كنت سمَّيته في كتابي “الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف” فقه مراتب الأعمال، أقصد أن لكل عمل في الإسلام مرتبة أو تسعيرة، أي درجة وقيمة معيّنة، في المأمورات والمنهيات، لكني بعد ذلك رجحت أن أطلق على هذا النوع من الفقه فقه الأولويات، واشتهر وانتشر، وكتب فيه الكثيرون، والقصد هنا أن يعرف الناس التقديم، لأننا كثيرًا نؤخِّر التقديم ونقدِّم التأخير، نكبِّر الصغير ونصغِّر الكبير، نعظِّم الهيِّن ونهوّن العظيم، فلا بد أن نضع كل عمل في مرتبته التي وضعها فيها الشرع.

من أخطر الأشياء أن نجعل ما رقمه واحد رقمه سبعين. فالنبي -- يقول: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).
فلا بد من المحافظة على ترتيب المنازل، وهذا أمر فرّط فيه المسلمون للأسف، لذلك احتجنا أن ننّوه إليه ونؤكد عليه ونكرره ونضرب له الأمثلة ونُدرج الأدلّة حتى يتفقّه المسلمون في هذا الأمر، فهو من أفضل ما قد يصل إليه المسلم لقوله --: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين).

فقه الأولويات وجذوره الفقه الإسلامي؟

فقه الأولويات له جذور.. وإنما لم يعبر عنه مثل هذا التعبير، إنما وجد البحث في التفضيل بين الأشياء فوجدنا من يقول مثلا: (إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور)، وقد رأينا من يقول: (من ضيَّع الأصول حُرم الوصول)، ورأينا ابن تيمية يقول: (جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج)، أخذًا بقوله تعالى: [أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون].

رأينا الإمام الغزاليّ وهو أوسع من تحدث في هذا الموضوع، في كتابه “الإحياء” وكتابه “الغرور”، حيث يتحدث عن غرور بعض الناس بحيث يقدمون أشياء لا تستحق التقديم على أشياء أهم منها وأخطر وأثقل ميزانا، وقال (إنَّ فقْدَ الترتيب بين الخَيْرات من جملة الشرور)، فقال مثلا: نقدم الفرض على النافلة، ونقدم فرض العين على فرض الكفاية، ونقدم فرض الكفاية الذي لم يقُم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به بعض الناس، ففرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالفقه، وفرض كفاية أن يوجد بعض الناس يشتغلون بالطب، ومما عابه الإمام أن يكون بالقرية الواحدة مثلا خمسون فرداً يشتغلون بالفقه، ولا يوجد مسلم واحد يشتغل بالطب، إنما يعالج المسلمين والمسلمات أناس من أهل الذمة، هذا نوع من الخلل، فهو ذكر هذه الأشياء.

كذلك هناك فرض له موعد معين فلا بد أن يؤدَّى فيه ويقدم على الفرض المطلق، مثل صلاة الجمعة لا بد أن تؤدى في موعدها، وهناك فرض آخر يمكن أن يؤدى بعد الصلاة، فلا بد أن نرتب بين الخيرات .

أفضل الأعمال وفقه الأولويات؟

ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور، وهناك أئمة وعلماء تحدثوا عن الموضوع في مناسبات شتى.
-فمثلاً ابن القيم تحدث عن أفضل الأعمال التي يُعبد بها الله تعالى، فقال بعض الناس: أفضل الأعمال أشقّها، وقال البعض ما يتعدى نفعه للغير، وهو انتهى بأنه قال لا يوجد شيء اسمه أفضل الأعمال بإطلاق، إنما كل واحد في ظرفه المعين ووضعه الخاص يوجد أفضل عمل بالنسبة له، ليس الأفضل بالنسبة للغريب أن يصوم، بل أن ينفق ماله في سبيل الله وفي خدمة المجتمع، وبالنسبة للعالم أفضل عمل أن يعلم الناس، وأفضل عمل للحاكم أن يعدل بين الناس (يوم من والٍ عادل أفضل من عبادة ستين سنة).

-وهكذا قال عندما سُئل ما أفضل الأعمال يا رسول الله؟ فكانت إجابته تختلف من شخص لآخر فكان يقول للبعض: الإيمان بالله تعالى وللبعض: الصلاة لوقتها، ولآخرين بر الوالدين وهكذا..، لأنه يعطي كل إنسان ما هو أكثر حاجة إليه، فأحدهم يقول للرسول أوصني ما أفضل عمل يدخلني الجنة، فكان يقول للبعض صل رحمك، وآخر يقول له لا تغضب…،

من أجل هذا ينبغي أن يكون الداعية مع من يُعلِّمه كالطبيب مع المريض، يعطيه ما يفيده في مداواة مرضه.