يقول الأستاذ الدكتور عبد اللطيف عامر أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القاهرة:ـ
ليس هناك في الفقه الإسلامي ما يعرف أو ما يسمى في القانون الوضعي بالجريمة المستحيلة؛ لأن الفقه ينظر إلى التصرفات المخالفة للنظام من حيث وقوعها، فإذا وقعت بفعل الجاني كانت جريمة مباشرة، وإلا فلا جريمة، أو بالأحرى لا تكون (جريمة كاملة).
ولقد عرف الفقهاء الجريمة بأنها: إتيان فعل محرم يعاقب على فعله، أو ترك فعل يعاقب على تركه، ولكن لأنهم ينظرون إلى الأعمال المخالفة من ناحيتين:
-ناحية السلطة القضائية التي تقرر عقوبة عاجلة على الجرائم في الدنيا.
-وناحية السلطة (الإلهية) التي تؤجل العقوبة أو العفو في الآخرة، فإنهم فرقوا بين الجريمة والمعصية.
فالجريمة –كما عرفها الماوردي-: “محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير” (الأحكام السلطانية)، والمعصية ما كان فيها مخالفة صريحة لأوامر الله ونواهيه، والعقاب عليها يكون أخرويا أو دنيويا أو هما معا.
فالنفاق مثلا معصية توعد الله المتصفين بها “بالدرك الأسفل من النار”، لأنه مطلع على سرائر الناس، ولكن السلطة القضائية لم تحدد عقوبة على النفاق، لأنه ليس من (الوقائع الحسية).
وإلى جانب ذلك فإن الله –سبحانه وتعالى- يجعل اعتباراً للنية والقصد من وراء العمل.
فحيث يطلع سبحانه على نيات العباد فإنها تكون أساسا لحسابهم على أعمالهم يوم القيامة، وحيث لا يطلع القضاء على هذه النيات فإنه يحاسب على الأعمال من حيث (الوقوع) لا من حيث (النيات) الكامنة وراءها.
ولقد قال الإمام الشافعي: (وأبان الله لخلقه أنه تولى الحكم فيما أثابهم وعاقبهم عليه على ما علم من سرائرهم، وافقت سرائرهم علانيتهم أو خالفتها، فإنما جزاهم بالسرائر فأحبط عمل كل من كفر به (أحكام القرآن للشافعي ج1/300).
وقد قال الرسول ﷺ: “يبعث الناس على نياتهم” (رواه أحمد عن أبي هريرة).
لكن إذا انعقدت النية على ارتكاب جريمة من الجرائم، ولم تخرج هذه الجريمة إلى حيز التنفيذ فلا عقوبة في الدنيا، وقال رسول الله ﷺ: “إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت ما لم تعمل به أو تتكلم” قال القرطبي في تفسير “ما لم تعمل به”: لم تعزم على عمله (القرطبي ج4/315).
وبناء على ذلك فقد اشترط الفقهاء في جريمة السرقة التامة هذه الشروط:
أ) إخراج المال المسروق من حرزه.
ب) إخراجه من حيازة المجني عليه.
ج) إدخاله في حيازة السارق.
هذا بالإضافة إلى كون المسروق يبلغ نصابًا معينًا.
-فمن دخل بيتا بنية السرقة فضبط قبل أن تصل يده إلى شيء، أو ضبط وهو يجمع المتاع فلا يعتبر فعله سرقة؛ فإنه لم يخرج الشيء من حرزه، وفعله لا يعد سرقة تستوجب القطع، وإنما يعد (شروعا) يستوجب التعزير.(الزرقاني على مختصر خليل ج8/98، المدونة ج16/72، المغني ج10/349).
-غير أن الظاهرية يذهبون إلى إيقاع الحد على الشروع في السرقة؛ لأن مجرد البدء في الفعل المكون للجريمة كافٍ لاعتبار فاعله سارقًا (المحلى ج11/319،337).
كما أن سرقة مال غير متقوم لا قطع فيها (المغني ج10/245).
وبناء على الشروط السابقة للسرقة التامة فقد جاء في “المبسوط” للسرخسي(ج9/148): أنه لو رمى السارق المسروق إلى السكة، ثم لما خرج لم يجده بأن كان أخذه غيره وذهب به لم يقطع، وقد قيل في تعليل ذلك: إن فعله هذا كان تضييعا للمال لا تتميما لفعل السرقة، وقد خرج ولا مال في يده، وعند الشافعي يقطع، لأن سرقته قد تمت بأخذ المال المحرز سواء أكان قد حازه لنفسه أم لغيره.
على أن الماوردي في “الأحكام السلطانية” يجعل ما يسمى “بالجريمة المستحيلة” موجباً للتعزير لا للحد فيقول: يجب تعزير من يوجد بجوار منزل ومعه مبرد ليستعمله في فتح باب بقصد السرقة.
كما يوجد نظير لها يسمى “الجريمة الخائبة”، وهي التي تتم ولكن يتبين أنه لا موضع لاعتداء.
فيقول ابن حزم: إن من ينوي ارتكاب جريمة ويفعلها ثم يتبين أنه لا موضع لها لا يعد مجرمًا في واقع الأمر (الإحكام في أصول الأحكام ج4/117).
ومن أطلق النار وكان القتل نتيجة لفعل لا يمكن نسبته إلى الجاني فلا يمكن اعتبار الجاني قاتلاً، ومن هتك حرزا بقصد السرقة فلم يجد ما يعد نصابا أو لم يجد شيئا على الإطلاق لم يكن سارقا يقام عليه الحد، وإن كان قد عرض نفسه لعقوبة تعزيرية يقررها القاضي (انظر بدائع الصنائع ج1/71، المدونة ج16/75، مواهب الجليل ج6/312، المغني ج7/832).