إن الإصلاح بين المتخاصمين من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى ، ولا مانع من أن يأخذ الإصلاح شكل مجلس للفصل بين المتنازعين .
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التحكيم في غير الحدود، لأنها من اختصاص الحاكم، وحكم المحكم يكون نافذا وملزما لأطراف النزاع ما لم يكن جورا .
على أن لا يصطدم الحكم بقاعدة من قواد الشرع ، فلا بد أن يكون الاعتماد في الحكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله علي وسلم ، وما قرره العلماء تأسيسا على هذين المصدرين ، لذلك لا بد أن يكون أعضاء لجنة التحكيم على علم بهذه الأمور ، فإن جاء حكمهم مخالفا لمقررات القرآن والسنة التي لا تقبل الخلاف فينقض حكمهم.
وعليه فإذا أصدر مجلس التحكيم قراره فعلى الطرفين الالتزام به، ومن رأى أنه ظلم يجوز أن يرفع أمره للقضاء، ولكن لا يجوز لأحد الطرفين أن يمتنع عن تنفيذ الحكم وعن إعادة الأمر للقضاء معا، فعلي الطرف المعارض أحد أمرين:
-إما تنفيذ قرار المجلس.
-وإما إعادة الأمر للقضاء.
وليس له خيار ثالث.
ولا يجوز للمحكم أن يتجاوز بحكم غير الخصمين اللذين ارتضيا به ، ويجوز أن يكون التحكيم في الأمور المادية
ما هو التحكيم وما هو حكمه:
يقول الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الجامع الأزهر الأسبق :-
التحكيم لغةً مصدر: حكَّمَه في الأمر والشّيء أيْ جعله حَكَمًا وفوَّض الحُكم إليه، وهو مشروع في الإسلام، ولقد أشار القرآن الكريم إلى جوازه بقوله ـ تعالى ـ في سورة النساء: (فَلاَ ورَبِّكَ لاَ يُؤمِنونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..)
ومن معاني التحكيم في اللُّغة الحكم.
وفي الاصطلاح التحكيم: تَولية الخَصْمَين حَكَمًا يحكم بينهما.
ويدلُّ على هذا قول الله ـ سبحانه ـ في سورة النساء: (وإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا).
وفي السُّنّة النبويّة ما يدلُّ على مشروعيّة التحكيم وجوازه، فقد رَضِيَ رسول الله ـ ﷺ ـ بتحكيم سعد بن معاذ، رضى الله عنه، في أمر اليهود حين جنَحوا إلى ذلك ورَضُوا بالنزول على حكمه كما جاء في البخاري. ومقتضَى فقه مذاهب الأئمة الأربعة جواز التحكيم في النِّزاع في شأن الأموال.
ومتى أصدر الحَكَم حُكْمَه صار الحكم مُلزِمًا لأطراف النزاع وتعيَّن إنفاذه دون توقُّف على رضا الخَصْمين، وقد جرَت بذلك أقوال فقهاء المذاهب، وقالوا: إن حكم المُحَكَّم كحكم القاضي متى استوفى شرائطه.
وهذا الإلزام الذي يتَّصف به حُكم المحكَّم ينحصر في الخَصمين فقط ولا يتعدَّى إلى غيرهما؛ ذلك لأنّه صدر بحقهما عن ولاية شرعية خاصّة نشأت عن اختيارهما الحَكَم المُحَكَّم في النزاع فيما بينهما.
وتُجيز نصوص الفقه لمَن لم يَرضَ بالحكم من الخَصمين أن يرفع الأمر إلى القضاء، وللقضاء أن يُقِرَّ حُكم المحكَّم، أو نقضه في نِطاق الأحكام الصحيحة تمامًا كما يطعن على حكم القضاء أمام الدرجة الثانية، ولم يختلف أحد في هذا من الفقهاء. انتهى.
قرار من مجمع الفقه الإسلامي في قضية التحكيم :-
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1- 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1- 6 نيسان (أبريل) 1995م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع مبدأ التحكيم في الفقه الإسلامي.
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ، قرر ما يلي:
أولاً: التحكيم اتفاق طرفي خصومة معينة، على تولية من يفصل في منازعةٍ بينهما، بحكمٍ ملزم، يطبق الشريعة الإسلامية.
وهو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية.
ثانياً: التحكيم عقد غير لازم لكل من الطرفين المحتكمين والحكم، فيجوز لكل من الطرفين الرجوع فيه ما لم يشرع الحكم في التحكيم، ويجوز للحكم أن يعزل نفسه – ولو بعد قبوله – ما دام لم يصدر حكمه ، ولا يجوز له أن يستخلف غيره دون إذن الطرفين، لأن الرضا مرتبط بشخصه.
ثالثاً: لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكمُ فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه، كاللعان، لتعلق حق الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنظر فيه.
فإذا قضى الحكم فيما لا يجوز فيه التحكيم فحكمه باطل ولا ينفذ.
رابعاً: يشترط في الحكم بحسب الأصل توافر شروط القضاء.
خامساً: الأصل أن يتم تنفيذ حكم المُحكّم طواعية، فإن أبى أحد المحتكمين، عرض الأمر على القضاء لتنفيذه، وليس للقضاء نقضه، ما لم يكن جوراً بيناً، أو مخالفاً لحكم الشرع.
سادساً: إذا لم تكن هناك محاكم دولية إسلامية، يجوز احتكام الدول أو المؤسسات الإسلامية إلى محاكم دولية غير إسلامية، توصلاً، لما هو جائز شرعاً .