الوقف هو حبس الشيء الممتلك ، وإنفاق ثمرته في سبيل الله تعالى ، وقد يكون وقفا على الأهل والأقارب والفقراء ، وقد يكون وقفا على المنافع العامة للمسلمين ، وهو الوقف الخيري ، وقد حث الشرع على الوقف ، لما له من أثر بالغ في حياة الأفراد والمجتمعات ، ولعل شح النفوس وبخلها ، وسوء إدارة الوقف أدى إلى انصراف الناس عنه ، والواجب إعلام الناس وتبليغهم بأهميته ، وتنشيطه في كثير من دوائر المجتمع في مختلف نواحي الحياة .
يقول الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر – رحمه الله – :
الوقف من الناحية الدِّينية شيء مُجْمَعٌ على جوازه، وكثير من الفقهاء والمسلمين يرون أنه تصرُّف مستحب، بناءً على ما وقع بين سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا رسول الله ـ ﷺ ـ حين ذهب عمر إلى النبي، وقال له: يا رسول الله، إني أصبتُ أرضًا بخَيبر، لم أُصِب قطُّ مالاً أنفس عندي منها، فما تأمرني فيها؟. فقال له النبي ـ صلوات الله وسلامه
عليه ـ: ” إنْ شئتَ حَبَسْتَ أصلَها، وتصدَّقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يُوهب، ولا يُورَّث”. فتصدق بها عمر على الفقراء وذوي القُرْبَى والرقاب وابن السبيل والضيف.
وإذا راجعنا تاريخ الإسلام وجدنا أن الوقف كان يُمثِّل في أغلب الأحيان جوانب الخير العملي في نفوس المسلمين الخيِّرين القادرين، فقد تفنَّن المسلمون في ألوانٍ شتَّى من الأوقاف أو “الأحباس” كما يُسميها بعضهم، فوقفوا على مختلف الجهات النافعة:جهات العبادة كالمساجد وبيوت الله، وجهات العلم، وجهات البِرِّ والإحسان والصدقة، وبعضهم وقف أوقافًا على إطعام الدواب الضالَّة، وعلى الطيور في بعض الأماكن، وبعضهم وقف أوقافًا على شراء بدل الأواني التي تُكسر من الخدم والصبية في الشوارع، وكذلك هناك أوقاف لإيواء الغرباء وإطعام المساكين والمنقطعين للعبادة وطلب العلم.
والواقع أن هناك جوانب كثيرة من جوانب المجتمع الإسلامي ما كان ينهض بناؤها لولا وجود الأوقاف الخيرية التي أُريد بها وجه الله، وأريد بها الإنفاق على جهات الخير التي لا يوجد لها رصيد معين للإنفاق عليها.
فالأزهر الشريف ـ وهو أكبر جامعة إسلامية في العالم ـ قام في أغلب عصوره على أوقاف الخيرين، والمساجد الكبيرة التي كانت تُلحق بها بيوت لسُكْنَى الطلاب أو لإيواء الفقراء أيضًا، أغلبها كانت قائمة على وقف الواقفين، واستمرت هذه الدور قرونًا طويلة.
وقد لُوحظ في العصور الأخيرة أن نزعة التقرُّب إلى الله ـ تعالى ـ أو نزعة الحرص على الخير والبر عن طريق الوقف، بدأت تتقلَّص وتنكمش، وقد تعاون فيما أعتقد على هذا التقلص عدة أسباب:
-منها فيما أعتقد سيطرة الشُّحِّ على نفوس الناس، فبعد أن كانت حياة المجتمع الإسلامي مزيجًا كريمًا طيبًا من رعاية المادة والروح، ومن العمل للحياة الدنيا مع الإعداد للآخرة، ومن إرضاء مطالب النفس المشروعة في الحياة مع التطوع والتقرب إلى الله ـ عز وجل ـ بمعاونة الآخرين المحتاجين، أخذ الشحُّ يسيطر على نفوس الناس، فهم يكنزون أموالهم، ويحرصون على ما في أيديهم، مع أن الوقف نفسه فيه نوع من صيانة مصدر الرِّيع بصورة لو أن العاقل تدبَّرها لفهم أن فيها ـ أيضًا ـ تحقيقًا لادخاره وصيانة أمر المستقبل حسب طاقة الإنسان، فقد يقف وقفه على ذُرُّيَّتِهِ، أو ما تسلسل من أقاربه، أو ما قارب ذلك، فيكون قد صان بالوقف مصدر إيراد متجدد عن طريق الوقف متى اعتدل واستقام أمره.
-وكذلك من أسباب انصراف كثير من الناس عن التوسُّع في الوقف على جهات الخير والبر، سواء أكانت خاصة أم عامة، سوء الاستغلال في الماضي لهذه الأوقاف عن طريق النُّظار الذين تَولَّوْا إدارتها، وهذا سبب قد شكونا منه مُرَّ الشكوى، وتعدد مآسيه ومتاعبه خلال عشرات ماضية من السنين، وإن كانت الشكوى هنا لا تتعدى دائرة لوْم هؤلاء الذين أساءوا التصرُّف دون التعرض لأصل المسألة، وهو أن الوقف في حد ذاته أمر يحقق ثمرات كثيرة ومنافع طيبة، فإذا عرَض له في طريقه سوء استغلال من النظار المشرفين على إدارة الوقف، فإن العلاج في هذا الموقف هو إصلاح ما عرَض في طريقه من سوء استغلال أو سوء استعمال، ولعل هذا السبب كان الدافع إلى تكرار المحاولة لإصلاح الشؤون الإدارية للأوقاف.
وأقترح الآتي:
أولاً: أن نبصر القادرين من المسلمين بتاريخ الوقف في الإسلام، والخيرات الكثيرة التي كانت تعود على الأمة الإسلامية من ورائه في العصور الطيبة التي أحسن الناس فيها استعمال هذه الأوقاف.
ثانيًا: أن نُبصر هؤلاء القادرين بما يعود عليهم من خير عاجل وآجلٍ، ومن راحة لضمائرهم في حياتهم، واطمئنان إلى ثواب الله العظيم في أُخْراهم، إذا اتجهوا هذه الوجهة، وخصصوا بعضًا مما يملكون لجهات الخير المتعددة الكثيرة، التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي فعلاً.
ثالثًا: أن نُبصِّر الذين يقفون بأن يتجهوا في وقْفهم إلى الجهات التي يُناسبها الوقف وتحتاج إليه، فقد كان هناك واقفون يقفون أوقافًا تُثير العجب بشروطها أو قيودها أو جهات صرفها.
والله أعلم