سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيمانًا بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله – ﷺ -، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته … أعد الرواحل التي يمتطيها، والدليل الذي يصحبه، وغير الطريق، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: اعقلها وتوكل.
فالأخذ بالأسباب التي يسرها الله تعالى هي استعانة بالله تعالى عن طريق القوانين التي وضعها في الكون.
يقول فضيلة الشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله تعالى-من علماء سوريا-:
1- معنى الاستعانة أن تعمل ما تقدر عليه وأن تطلب من غيرك ما تعجز عنه، فمن كان يحمل حملاً ثقيلاً، واستعان بك ضممت قوتك إلى قوته، وأعنته على حمله، وأما إذا قعد في المقهى يشرب الشاي ووضع حمله على الأرض، وطلب أن تعينه، فهذه ليست استعانة بمعناها الحقيقي.
2- الاستعانة بالمخلوق منها ما هو مشروع ومنها ما هو ممنوع.
فإذا مرض ولدك فاستعنت بالطبيب على شفائه، فإنما تستعين في الحقيقة بقوانين الله التي وضعها في هذا الكون، أي بأسباب الشفاء التي خلقها الله وعرفها الطبيب ولم تعرفها أنت، فهذه استعانة بالله لكنها جاءت عن طريق الأسباب التي يقدر عليها من تستعين به.
3- أما إذا مات الطبيب ولم يعد قادرًا على نفعك بعلمه بهذه القوانين وذهبت إلى قبره وطلبت منه “العمل على شفاء ولدك” كان هذا من الاستعانة الممنوعة، وكذلك كل طلب من ميت ولو كان وليا أو كان نبيًا لأنه لا يقدر بعد موته على اتخاذ الأسباب التي تؤدي إلى شفاء ولدك عن طريق قوانين الله في هذا الوجود.
4- فالاستعانة الحقيقية بالله: إما عن طريق قوانينه التي وضعها في هذا الكون وإما أن تطلبها منه رأسًا. أي أن تدعوه والدعاء سبب من الأسباب، والله قادر على الاستجابة لك، وقادر على خرق القانون الطبيعي الذي وضعه وهو لا يسأل عما يفعل، ولكن المشاهد أن الذي جعله مستحيلا عقلاً لا يحققه بالدعاء. أما إذا طلبت من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله من غير طريق القوانين الطبيعية التي طبعها الله كان هذا ممنوعًا.
ويقول فضيلة الشيخ عطية صقر –رحمه الله تعالى-رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا-:
التوكُّل هو الإيمان بأن الله سبحانه هو الواحد المتفرد بالخلق، ومنه كل النعم، وإليه المرجع والمصير، مع إظهار مِسْحة هذا الإيمان على السلوك في القول والعمل، وامتثال أمر الله والسير على منهجه الذي أوحى به إلى الرسل.
ولو طبقنا هذا المعنى في طلب الرزق مثلاً فلابد في التوكل من الإيمان بأن السعي والجد في العمل وحده لا يمكن أن يوصل إلى النتيجة إلا بإرادة الله سبحانه، فقد يكون هناك سعي وجد وعمل ولا يكون من وراء ذلك تحقيق ما يريده الإنسان، فلابد من الأمرين: الأخذ بالأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله سبحانه وانفراد واحد منهما عن الآخر خطأ. فالأخذ بالأسباب دون التفويض لله يناقض الإيمان، وربما لا يوصل إلى المطلوب، والتفويض لله فقط دون الأخذ بالأسباب. تعطيل لقانون الله وعدم الامتثال لأمره بالسعي والعمل، وهذا ما يعرف بالتواكل.
وعلى ضوء ذلك من يقتصر على الإيمان بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا) (سورة هود : 6) دون تنفيذ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَاْمُشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (سورة الملك : 15) يكون مخطئًا ويطلق عليه اسم المتواكل، يوضح ذلك ما حدث أن رجلاً ترك ناقته على باب المسجد النبوي وقال للرسول ـ ﷺ ـ هل أتركها بدون عقل ـ قيد ـ وأتوكل على الله ليحفظها أو أعقلهاـ أقيدها بالعقال؟ فقال له “قيِّدها وتوكل” رواه ابن خزيمة والطبراني بإسناد جيد.
وقد يوضح هذا أيضًا قول النبي ـ ﷺ ـ “لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِمَاصًا وتروح بِطانًا” رواه الترمذي وقال: حسن صحيح فالطير تبارح الأعشاش لتطلب رزقها ولا تنتظر وتفتح أفواهها لينزل لها الرزق من السماء وهي راقدة في الأعشاش.
يقول أبو الفتوح الرازي الواعظ المفسر:
توكل على الرحمن في كل حاجة.. ولا تتركن الجد في شدة الطلب
ألم تر أن الله قال لمريم .. وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه .. جنته ولكن كل شيء له سبب