يقصد بعبارة الاجتهاد التنزيلي: تنـزيل الأحكام الشرعية وإيقاعها على الوقائع عن طريق تطبيق القواعد الفقهية والأصول العامة للشريعة على ما استجد من قضايا وأحداث بما يوافق هدي الشريعة محققا لمقاصدها، ويطلق عليه (فقه النوازل) أو الاجتهاد التنزيلي .
يقول د. بشير بن مولود جحيش في كتابه (في الإجتهاد التنزيلي ) المنشور في سلسة كتب الأمة :
جاءت الشريعة الإسلامية هادية لحياة الإنسان في الفكر والعمل، تسدد الفكر إلى الحق، وترشد العمل إلى الخير والصلاح، وذلك عبر قسمي الاجتهاد: الاجتهاد في الفهم والاجتهاد في التطبيق (التنـزيل).
أما الاجتهاد في الفهم: فهو استجلاء الخطاب الشرعي لتمثل خطاب الشارع فيه، أمراً ونهياً، وسبيله أمران:
أولهما: استظهار واستكشاف تلك المفاهيم الكلية وتعقلها، وتحديد حقائقها من النصوص، وبيان دلالاتها التفصيلية على المعاني، من خلال أدوات الفهم المعتبرة، وهذا ما يسمى بالاجتهاد في نطاق النص.
وثانيهما: الاجتهاد «فيما لا نص فيه» استهداءً إليه من منطلق القواعد العامة والمقاصد الكلية للتشريع، وذلك عبر أنواعه المختلفة.
وغاية الفهم عبر المسلكين كليهما حصول تصور يقيني أو ظني لمراد الله تعالى في التكليف.
وأما الاجتهاد في التطبيق (التنـزيل): فهو الإجراء العملي لما حصل على مستوى الفهم التجريدي للأحكام الشرعية على واقع الأفعال، وتكييف السلوك بها.. وهذا في الحقيقة لا يقل خطراً وأهمية عن الأول؛ إذ هو مناط ثمرات التشريع، ولا جدوى من التكلم بحق لا نفاذ له.
وتبرز أهمية هذا النمط الاجتهادي التطبيقي كلما توسعت خطة الإسلام وكثرت الوقائع والأحداث المفتقرة إلى اجتهاد يوفق طوارئها إلى هدي الشـريعة بما يحقق مقاصدها، واجتهاد يكون مـبنياً على أصول منضبطة تقي القائمين عليه مزلات التطبيق، وتعصمهم من دواعي الإفراط والتفريط، ولا جرم أن ذلك لا يتم عبـر التطبيق الآلي للنصوص، بل هو تطبيق قائم على تحقيق مناطات الأحكام في أنواع وأفراد الوقائع، مما يتيح تنـزيلاً صائباً للحكم.
وهذا مشروط بمدى تجسيم تلك العلاقة الجدلية بين الحكم في تجريديته وبين الواقع بملابساته وظروفه، بهدف: تحقيق المقاصد الشرعية في التطبيق، تلك المقاصد التي من أجلها شرعت الأحكام وإليها تفضي، وذلك «بحفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو الإنسان».
وقد يتخلف تحقيق هذه المقاصـد لعدم التحقق من مآلات الأفعـال؛ إذ الحكمة لا تقتضي التطبيق الآلي للأحكام دون النظر لما قد يؤول إليه ذلك التطبيق وما يسببه من تداعيات قد تعود على المقاصد الشرعية بالنقض، بل هو محكوم بأصل النظر في المآلات الواقعة أو المتوقعة؛ لا سيما ونحن في هذه المرحلة والأمة تتطلع إلى اسـتيعاب الكسب الحضاري الإنسـاني، ثم إثرائه بما يستجيب لتوجيه الأمة نحو الشهود الحضاري الذي ارتضاه الله تعالى لها، وتجنيب المسيرة الإسلامية مواقع الزلل وعثرات الطريق.
وعلى الرغم من أن علماء الأصول قد أسهموا في بيان وتفصيل أصول استنباط الأحكام الشرعية لفهمها، إلا أن أصول التطبيق لم تنل سوى القليل المجمل، ومن ثم فقد انعدمت أيضاً الكتابات المعاصرة حوله، إفراداً له وتفصيلاً، اللهم إلا مباحث في كتب تناولت فقه التنـزيل في بعض جوانبه، سواء من حيث التركيز على أبرز منظريه من السابقين، أو البيان لجانب خاص وجزئي فيه.
ولعلّ أبرز من ركزّ على البُعْد التطبيقي في التنظير الأصولي من العلماء السابقين، الإمام أبو إسحاق الشاطبي، رحمه الله، في «الموافقات»و«الاعتصام»، فقد جعل الاجتهاد في تنـزيل الحكم الشرعي على الواقع قسيم الاجتهاد في فهم النص، وعبََّّر عن هذا الضرب من الاجتهاد بالاجتهاد في تنـزيل الأحكام الشرعية أو إيقاعها على الوقائع، أو تنـزيل الوقائع على الأدلة الشرعية فقال: «المقصود من وضع الأدلة تنـزيل أفعال المكلفين على حسبها».
وعرّفه فقال: «أن يثبث الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محلّه» .. وقال: بأن هذا الاجتهاد «لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة».