اختلف الفقهاء من قديم حول حكم استخدام منفحة الميتة في صناعة الجبن، والذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك جائز لا شيء فيه، وهذا ما اختاره الشيخ يوسف القرضاوي.
ومن أظهر ما استدل به شيخ الإسلام استخدام الصحابة للجبن الذي كان يصنعه المجوس إبان الفتح الإسلامي مع أن ذبيحة المجوسي لا تؤكل .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب فقه الطهارة :-
مما اختلف فيه الفقهاء في شأن الميتة ما يتعلق بلبن الميتة و(الأنفحة) المأخوذة منها، والتي يُحتاج إليها في صناعة الجبن الذي لا ينعقد إلا بها. وقد أثار بعض الإخوة المسلمين في أمريكا وفي الغرب في السبعينيات من القرن العشرين قضية حِلّ الجبن، حيث تبنى بعضهم القول بتحريمه، استنادًا إلى أن المنفحة التي توضع فيه محكوم عليها بالنجاسة شرعا، لأنها إما من خنزير، وإما من بقر غير مذكّى ذكاة صحيحة.
وقد رجحت القول بالحل مستندا إلى أمرين:
الأول: أكل الصحابة لجبن المجوس، في أوائل الفتح الإسلامي لبلاد الفرس، وقد كانوا يعتبرون ذبائحهم ميتة، أو لها حكم الميتة، والخنزير مثل الميتة في الحكم، على أن المحرم في الخنزير هو لحمه بنص القرآن، وليست الأنفحة من اللحم.
الثاني: أن القَدْر الذي يوضع في الجبن من الأنفحة يسير جدا، لا يكاد يذكر، فمثل هذا من عادة الشرع أن يعفو عنه.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن لبن الميتة وأنفحتها فقال رحمه الله:
(وأما لبن الميتة وأنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء:
أحدهما: أن ذلك طاهر. كقول أبي حنيفة وغيره، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني: أنه نجس. كقول مالك والشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد.
وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس، فإن ذبائح المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف، وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة، فإذا صنعوا جبنا ـ والجبن يصنع بالأنفحة ـ كان فيه هذان القولان.
قال ابن تيمية:
والأظهر أن جبنهم حلال، وأن أنفحة الميتة ولبنها طاهر، وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس، وكان هذا ظاهرا شائعا بينهم، وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر، فإنه من نقل بعض الحجازيين، وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا، فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز.
ويدل على ذلك: أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن، وكان يدعو الفرس إلى الإسلام، وقد ثبت عنه: أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء؟ فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه. وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي ﷺ. ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب، فإن هذا أمر بيِّن، وإنما كان السؤال عن جبن المجوس: فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحِلّها، وإذا كان روي ذلك عن النبي ﷺ انقطع النزاع بقول النبي ﷺ.
وأيضا فاللبن والأنفحة لم يموتا، وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس، فيكون مائعا في وعاء نجس، فالتنجيس مبني على مقدمتين: على أن المائع لاقى وعاء نجسا، وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا.
فيقال أولا: لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة.
ويقال ثانيا: إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها، كما قال تعالى: ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ ) النحل: 66، ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه.