العقل الإنساني هو مظهر من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان، وإعمال العقل في أمور الدنيا أمور محمود فعلى كل مسلم في ميدان عمله أن يعمل عقله وفكره فيما يعود بالنفع على نفسه ووطنه وعلى البشرية جمعاء>

أعمال العقل في أمور الدين:

أعمال العقل في أمور الدين فالأمر فيه تفصيل: -ففيما يتعلق بالجوانب العملية فما جاء بدليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة فمجال إعمال العقل فيه في استنباط علل الأحكام وحكمة التشريع، ولكن عند التطبيق لا مجال لإعمال العقل بزيادة أو نقصان، بل يجب الاتباع سواء أدرك العقل حكمة التشريع أم لم يدركها>

-أما ما سكت عنه الشارع فباب الاجتهاد مفتوح لأهل الذكر ليعملوا عقولهم في استنباط الأحكام.

-أما الأمور الغيبية، فما ثبت منها بدليل قطعي فلا مجال لإعمال العقل فيها والواجب هو الإيمان والتسليم كما أخبر الله عز وجل وبلغ رسوله .

هل يمكن إدخال العقل في دائرة الغيب:

يقول فضيلة الدكتور علي بن عمر بادحدح -من علماء السعودية-: الإسلام جعل للعقل مكانة كبيرة في مجال التدبر والتفكر ومجال الاستنباط وعمران الأرض، ووردت الآيات القرآنية بذلك بوجوه مختلفة

ولمعرفة حقيقة مجال العقل ومحدوديته؛ فإنني أقول: إن الحواس كلها لها طاقة محدودة مقدرة معينة لا تستطيع تجاوزها فكل حاسة تتجاوز مجال قدرتها لا تصل إلى المراد ويلحقها الضرر، فعلى سبيل المثال: العين تبصر وترى الأشياء لكنها رغم سلامتها لا تستطيع أن ترى الميكروبات الدقيقة رغم أنها موجودة، ولا تستطيع الأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية وهكذا، فإنها لها مجال وقدرة محددة، وإذا أرادت أن تخرج عن هذا أصابها الضرر ولم تحقق المقصود، فلو أن إنساناً أصرّ على أن يعرف حقيقة الشمس بعينه وحدّق فيها في وقت الظهيرة؛ فإنه لن يصل إلى مبتغاه وسوف يضر عينه، وهكذا بقية الحواس كالأذن وغيرها .

والعقل كذلك له طاقة وقدرة محددة ولا يستطيع أن يخضع كل المعارف وحقائقها لقدرته، فإن الناس يؤمنون ويسلمون بأمور لا تدركها حواسهم ولا تحيط بها عقولهم، فعلى سبيل المثال الجاذبية الأرضية تقبلها العقول وإن كانت لا تستطيع معرفة حقيقتها، والكهرباء عبارة عن انتقال الإلكترونات من القطب السالب للموجب لكن تعجز العقول عن معرفة كنه ذلك، وكذلك العقل يرى السراب وتعطيه الحواس أن ما تراه ماءً؛ ولكنه من واقع التجربة ينكر دلالة الحواس، ومثل ذلك القلم إذا وضع في الماء بدا منكسراً ومتعرجاً وهو ليس كذلك.

ومن هنا فإن العقل له دائرة لا يستطيع أن يخضعها لمجال عمله ومن ذلك أمور الغيب، ويمكننا أن نقول: إن ما دخل في دائرة الغيب خرج من دائرة العقل.

فعلى سبيل: المثال الميت إذا وضع في قبره ردت إليه روحه وجاءه الملكان فيجلسانه ويسألانه كما هو معروف في نص الحديث الصحيح، فكيف هي عودة الروح؟، ولماذا لا يصيح الميت ويطلب الخروج؟ وكيف يفسح له في قبره مدّ بصره إذا كان من أهل النعيم؟ كل ذلك لا يمكن تفسيره ومعرفته بالعقل، فالعقل مجال عمله دائرة الشهادة.

وأما الغيب فلا، ومثل ذلك يمكن أن يقال في مثال أقرب؛ وهو مثال الرؤى التي يراها النائم، وكيف نستطيع أن نفسر أن النائم إذا رأى في المنام أنه يجري استيقظ وهو يلهث ؟ ما صلة الرؤية بعالم الشهادة ؟، وإذاً المطلوب في أمور الغيب مادامت جاءت من طريق الوحي أن يقبلها العقل ويسلم بها ولا يخوض في معرفة كنهها، ولو فعل ذلك لما وصل إلى نتيجة ولأضر ذلك بعقله، كما قلنا بشأن العين عندما تحدق في الشمس، وهذا الذي للفلاسفة وغيرهم ممن أرادوا أن يعرفوا بعقولهم ما وراء عالم الشهادة.

وفي ضوء هذا نفهم قوله سبحانه وتعالى: “والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولو الألباب” [آل عمران:7]، وعلى هذا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم، وقفوا بعقولهم عند حدها ولم يخوضوا بها في ميادين الغيب الفسيحة، حيث لم يدخلوا في التفكير في ذات الله، ولا في كنه وكيفية صفاته، وزجروا عن ذلك ومنعوا منه؛ فسلموا من الشكوك والشبهات واطمأنت قلوبهم بالإيمان واليقين.

سئل الإمام ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات، فقال: ولم يكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب أئمة الدين، (مثل: مالك، وسفيان، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن يحيى، وابن المبارك، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف) يتكلمون في ذلك وينهون أصحابهم عن الخوض فيه،ويدلونهم على الكتاب والسنة.

وسمع الإمام أحمد شخصاً يروي حديث النـزول، ويقول: ينـزل بغير حركة ولا انتقال، ولا تغير حال، فأنكر أحمد ذلك وقال: قل كما قال رسول الله – -فهو أغير على ربه منك .

وقال الأوزاعي لما سئل عن حديث النـزول: يفعل الله ما يشاء.
وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه؛ فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء .(أقاويل الثقات ص62،63).

وقال صاحب الطحاوية: “فإنه ما سلم في دينه إلا من سلّم لله -عز وجل- ولرسوله – - ورد علم مشتبه عليه إلى عالمه” قال الشارح أي :”سلّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة….” فالواجب كمال التسليم للرسول – - والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكًّا، أو نقدم آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحد بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما نوحد المرسِل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.

وقال الطحاوي: “ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام” قال الشارح: “أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها، ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه”.

روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري -رحمه الله- أنه قال: “من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم”، وهذا كلام جامع نافع “(شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص216-217-219).

هل يجوز القول بتحكيم العقل في كل الأمور:

الذين يقولون بتحكيم العقل نحاجهم بالعقل نفسه؛ فنقول: إن العقول تقر وتسلم بأن بينها تفاوتاً واختلافاً، في قوتها وقدرتها، فأي عقل هو الذي سيكون المرجع الذي يحتكم إليه عند معارضته للنص؟، ولماذا يسلم لعقل إنسان من البشر ؟، ثم إن العقل نفسه يغير في نظره وحكمه بحسب ما يجدّ له من معرفة أو ما يتوصل إليه بعد المراجعة والتأمل، ومعنى ذلك أننا سنأخذ اليوم قولاً وربما في الغد يأتينا العقل بقول آخر، وهناك أيضاً من خلال تفاوت العقول ستكون لدينا آراء وأقوال كثيرة وهذا يفضي إلى الاضطراب والحيرة، ثم أحياناً يكون بين آراء تلك العقول متناقضات لا يمكن الجمع بينها، والتجربة تشهد أن الذين خاضوا في تحكيم العقل وتحكّمه في النص ضلوا وبعضاً منهم رجعوا وأقروا بخطأ هذا المنهج ولزوم التسليم للشرع المعصوم .

وأخيراً فإنه لا بد من اليقين بأن ما جاء به الشرع المعصوم هو الكمال المطلق الذي تتحقق به المصالح وتندفع به المفاسد ويتفق مع الفطر السليمة والعقول الرشيدة، وأنه يحق لنا أن نحمد الله -عز وجل- على نعمة الدين والعقل معاً إذا كان عقلنا على منهج الصواب في ديننا، فكل ما حرمه الإسلام شهدت العقول بمضرته وتقدم العلوم يكشف المزيد لكل ذي عقل حصيف.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومنها تحريم الخمر ولحم الخنـزير والربا والسفور والاختلاط، ولا بد أن نسلم ونقتنع بعقولنا أن مخالفة الشرع تحصل بها المفاسد وتتكدر بها الحياة كما قال تعالى :”ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً [طه:124].

ومن نعمة الله على أهل الإسلام أنه كفاهم أمر الغيب، فأنزل عليهم القرآن وتكفل بحفظه وأرسل إليهم الرسول – - وحفظ سنته فكفاهم أمر الغيب والدين والعبادة حتى لا ترهق عقولهم بالبحث فيما لا تستطيع وحتى تفرغ عقولهم للتفكير في شؤون دنياهم واستخراج خيرات الأرض.

قال سيد قطب -رحمه الله- “وما من دين احتفل بالإدراك البشري وإيقاظه وتقويم منهجه في النظر واستجاشته للعمل وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة، وصيانته في الوقت ذاته من التبدد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل، ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام”.

وقال أيضاً: “إن التصور الإسلامي يدع للعقل البشري وللعلم البشري ميدانه واسعاً كاملاً فيما وراء أصل التصور ومقوماته ولا يقف دون العقل يصده عن البحث في الكون، بل يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه دفعاً”. (خصائص التصور إسلامي ص 49، 71).

ومن لطائف ما ذكره الغزالي المتأخر -رحمه الله- أنه ذكر أن الله كفى المسلمين أمر الدين وأمرهم فيه بالاتباع، وفتح لهم أمر الدنيا وأمرهم فيها بالابتداع، لكن بعض المسلمين مضوا في الدين بالابتداع والاختراع، وفي شأن الدنيا اكتفوا بالاتباع لأمم الشرق والغرب دون تطور وإبداع واختراع .

ولذا ينبغي البعد عن خوض العقول في هذه المتاهات الغيبية، بل ينبغي الترفع عن إشغال العقول في المسائل الجدلية التي لا طائل من ورائها، قال البنا -رحمه الله-: “وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع”، (رسائل الإمام حسن البنا ص9).

قال ابن حجر في هذا السياق: “ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع وهي نادرة الوقوع جداً، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى … وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها… وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة” (فتح الباري 13/267)، والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.