للعلماء في إطلاق لفظ الشهادة على مسلم بعينه اتجاهان، منهم من منع ذلك، ومنهم من أجازه، ومن أجاز ذلك أجازه بحسب الظاهر، ووكلوا نيته إلى الله تعالى، ومن منع من ذلك إنما خاف أن تكون ذلك شهادة على مسلم بعينه أنه من أهل الجنة؛ لأن الشهيد من أهل الجنة قطعا إلا أن الحكم بحسب الظاهر ربما يرفع هذا التخوف .

مذاهب العلماء في إطلاق لفظ الشهادة على شخص معين

مذاهب العلماء في ذلك وأدلتهم :-

القولِ الأولِ :
أنه لا يجوزُ أن نشهدَ لشخصٍ بعينهِ أنه شهيدٌ ، حتى لو قُتل مظلوماً ، أو قُتل وهو يدافعُ عن الحقِ ، إلا من شهد له النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، أو اتفقت الأمةُ على الشهادةِ له بذلك .
ومن القائلين بهذا : الإمامُ البخاري ، ورجحهُ الشيخُ محمدُ بنُ العثيمين . وهو رأي الشيخ العلامةِ الألباني .

واستدل أصحابُ هذا القول بما يلي :
1-
‏عَنْ ‏‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قَالَ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؛‏ ‏لَا ‏‏يُكْلَمُ ‏‏أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ ‏‏ يُكْلَمُ ‏‏ فِي سَبِيلِهِ ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ . رواهُ البخاري .

وقد بوب البخاري على الحديث بقولهِ : ” باب لا يقولُ : ” فلانٌ شهيدٌ ” .
2- أن أم العلاء (امرأة من الأنصار بايعت رسول الله ) أخبرته : أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة، قالت : فطار لنا عثمان بن مظعون وأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، دخل رسول الله ، فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله : (وما يدريك أن الله أكرمه). فقلت : بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله : (أما هو فو الله لقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، ووالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي). فقالت : والله لا أزكي بعده أحدا أبدا. رواه البخاري .

3- قال عمر بن الخطاب ( تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيدا، ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله : من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد “) وهذا الحديث عزاه ابن حجر لأحمد في المسند، ولسعيد بن منصور، وحسن الحافظ إسناده .

4-  ومما استدلوا به كذلك قولهم : إننا لو شهدنا لأحدٍ بعينهِ أنه شهيدٌ لزم من تلك الشهادةِ أن نشهد له بالجنةِ ، وهذا خلافُ ما كان عليه أهلُ السنةِ .

ردُ العلماءِ على تبويبِ البخاري : –

رد الحافظُ ابنُ حجر على تبويبِ البخاري في ” الفتح ” فقال : ” أي على سبيلِ القطعِ … وإن كان مع ذلك يُعطى حكم الشهداءِ في الأحكامِ الظاهرةِ ، ولذلك أطبق السلفُ على تسميةِ المقتولين في بدرٍ وأحدٍ وغيرهما شهداء ، والمرادُ بذلك الحكم الظاهرُ المبنيُّ على الظنِ الغالبِ ، والله أعلم .ا.هـ .

ونقل الشيخُ بكرُ أبو زيد في ” معجم المناهي اللفظية ” ( ص 320) عن الطاهر بنِ عاشور عن ترجمةِ البخاري فقال : ” هذا تبويبٌ غريبٌ ، فإن إطلاقَ اسم الشهيدِ على المسلمِ المقتولِ في الجهادِ الإسلامي ثابتٌ شرعاً ، ومطروقٌ على ألسنةِ السلفِ فمن بعدهم ، وقد ورد في حديثِ الموطأِ ، وفي الصحيحين : أن الشهداءَ خمسةٌ غير الشهيد في سبيل اللهِ ، والوصف بمثلِ هذه الأعمالِ يعتمدُ على النظرِ إلى الظاهرِ الذي لم يتأكد غيرهُ ، وليس فيما أخرجهُ البخاري هنا إسنادٌ وتعليقُ ما يقتضي منع القولِ بأن فلاناً شهيدٌ ، ولا النهي عن ذلك .

فالظاهرُ أن مرادَ البخاري بذلك أن لا يجزم أحدٌ بكونِ أحدٍ قد نال عند اللهِ ثواب الشهادةِ ؛ إذ لا يدري ما نواهُ من جهاده ، وليس ذلك للمنعِ من أن يقال لأحدٍ : إنهُ شهيدٌ ، وأن يُجرى عليهِ أحكامُ الشهداءِ ، إذا توفرت فيه ، فكان وجه التبويب أن يكونَ : باب لا يجزمُ بأن فلاناً شهيدٌ إلا بإخبارٍِ من رسول الله مثل قوله في عامر بن الأكوع : ” إنه لجاهدُ مجاهدٌ ” . ومن هذا القبيلِ زجرُ رسولِ الله أم العلاء الأنصاريةِ حين قالت في عثمانَ بنِ مظعون : ” ‏شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :‏ ” ‏وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ ” .ا.هـ .

القول الثاني:
جوازُ تسميةِ المقتولِ في سبيلِ اللهِ وغيرهِ ممن مات بسببٍ من أسبابِ الشهادةِ بـ “الشهيد ” ولو بالتعيين ، بناءً على الحكمِ الظاهرِ المبني على الظنِ الغالبِ ، وذلك لمن اجتمعت فيه الشروطُ ، وانتفت عنه الموانعُ في الأعمالِ البدنية الظاهرةِ دون الأعمالِ الباطنةِ كالإخلاصِ مثلاً .

واستدل أصحابُ هذا القولِ بما يلي :
1 – أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏‏يَقُولُ :‏ ‏لَمَّا طُعِنَ ‏‏حَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ ‏، ‏وَكَانَ خَالَهُ يَوْمَ ‏بِئْرِ مَعُونَةَ ‏ ‏قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا فَنَضَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ : ” فُزْتُ وَرَبِّ ‏‏الْكَعْبَةِ ” . رواه البخاري .
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في ” الفتح ” ” فُزْتُ وَرَبِّ ‏‏الْكَعْبَةِ ” ‏أَيْ بِالشَّهَادَةِ ” .ا.هـ .
وهذه شهادةٌ لنفسهِ ولم يُنكِر عليه النبي .

2-  وقد أخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابه النبي . فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله : “كلا. إني رأيته في النار. في بردة غلها. أو عباءة) .

فلم ينكر النبي على الصحابة ذلك بل أقرهم حيث كانوا يقولون: فلان شهيد وفلان شهيد. كما في لفظ مسلم حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله : كلا إني رأيته في النار …
فأنكر النبي إطلاق لفظ الشهادة على الغال لملابسة خاصة به .

وعموماً فالشهادة والإيمان من موجبات دخول الجنة، فإذا قيل فلان مؤمن أو فلان شهيد فلا مانع من ذلك، وهو حكم بالظاهر وليس على سبيل القطع .

وأورد صاحبُ كتاب ” أحكام الشهادة في الفقه الإسلامي ” عبد الرحمن العمري آثاراً عن السلفِ حكم فيها بالشهادةِ لعددٍ من الصحابة منهم : هشام بن العاص ، وقُثَم بن العباس ، والبراء بن مالك ، والنعمان بن مقرنٍ .

وجاء في ” سير أعلام النبلاء ” للذهبي عند ترجمةِ أحمد بن نصر المروزي عندما قتل في فتنة القرآن : ” قَالَ ابْنُ الجُنَيْدِ : سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : خَتَمَ اللهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ ، قَدْ كَتَبْتُ عَنْهُ ، وَكَانَ عِنْدَهُ مُصَنَّفَاتُ هُشَيْمٍ كُلُّهَا ، وَعَنْ مَالِكٍ أَحَادِيْثُ .ا.هـ .

هل يعتبر شهيد من مات غرقا

سُئل شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في الفتاوى عَنْ رَجُلٍ رَكِبَ الْبَحْرَ لِلتِّجَارَةِ ، فَغَرِقَ فَهَلْ مَاتَ شَهِيدًا ؟ .
فَأَجَابَ : نَعَمْ مَاتَ شَهِيدًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِرُكُوبِهِ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ” الْغَرِيقُ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِيقُ شَهِيدٌ وَالْمَيِّتُ بِالطَّاعُونِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي نِفَاسِهَا شَهِيدَةٌ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ ” . وَجَاءَ ذِكْرُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ .
وَرُكُوبُ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ جَائِزٌ إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّلَامَةُ . ا.هـ .

حكم إطلاق لفظة الشهيد على شخص معين

سُئل سماحةُ الشيخِ عبدُ العزيزِ بنُ باز – رحمه الله- أرجو من سماحتكم إفتائي في حكم إطلاق لفظة ( الشهيد ) على المعين ، مثل أن أقول : الشهيد فلان ، وهل يجوز كتابة ذلك في المجلات والكتب وجزاكم الله خيرا ؟

فأجاب بقوله : كل من سماه النبي شهيدا فإنه يسمى شهيدا؛ كالمطعون والمبطون وصاحب الهدم والغرق والقتيل في سبيل الله والقتيل دون دينه أو دون ماله أو دون أهله أو دون دمه ، لكن كلهم يغسلون ويصلي عليهم، ما عدا الشهيد في المعركة فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات في المعركة؛ لأن الرسول لم يغسل شهداء أحد الذين ماتوا في المعركة ولم يصل عليهم كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر رضي الله عنه .