جاء في القرآن الكريم وصْفُ نعيم الجَنَّة بأوصافٍ فيها بعضُ الغَرابة، بالنسبة لما نراه في عالم الدنيا، حيث تختلف طبيعة الأشياء ويختلف الحُكم المَنوط باستعمالها إباحة ومنعها، فهناك زواج بلا تَنَاسُل، وأَكْلٍ وَشُرْبٍ بلا مُخَلَّفات وخَمْرٍ بلا سُكر ولا غوْل، ولا لَغو ولا تأْثيم، وهناك مَا لا عَيْنٌ رأتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر.
والحَقُّ ـ كما قيل ـ أ نَّ كلَّ ما خَطَر ببالك فالجنة على خلاف ذلك، فقوانين الآخرة غير قوانين الدنيا، وقد يكون هناك تشابُه في الأسماء مع اختلاف المُسميات شكلاً وموضوعًا كما يقولون، قال تعالى: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) (سورة البقرة: 25).
وقد جاء في القرآن الكريم أنَّ في الجَنَّة أنهارًا لم تُعْهَد صورتها في الدنيا كما قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ منِ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ للشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى) (سورة محمد : 15) . وهي كلها مشروبات تهفو إليها النفس، كثيرة لا ينْضَب مَعِينُها ، طيبة لا يُخْشَى فسادها، هنيئة لا تخاف عاقبتها، فالماء غَيْرُ آسن لم تتغير رِيحُه، واللبن طازجٌ لَمْ يَفْسَدْ طَعْمُهُ، والْخَمْر لذيذة مُسْتَساغة، والعسل نقي مُصَفَّى من الشوائب.
ويجئ في القرآن وصف هذه الأنهار بأنها تجري تحت الجنة، قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) (سورة الرعد : 35).
فكيف يتصور أن تجري الأنهار تحت الجنة؟ إن الصورة الحقيقية لا يعلمها إلا الله سبحانه، ومن أخبره بها، وسيعلمها علمَ اليقين من يتفضل الله عليه بدخول الجَنَّة، ولكنَّ المُفسرين حاولوا تقريب هذه الصورة بما يعهدونه في الدنيا، فقالوا: إن الجناتِ بساتين على ربوات عالية بقصورها الشاهقة وأشجارها السامقة، والأنهار تجري حولها مُنْخِفَضة عند قاعدة الرَّبوات، والمعهود أن الأرض إذا كانت فوق مستوى الماء كانت أصلح وأطيْب، وفي الوقت نفسه تُوجد الفرصة لمن ينعمون بالجنات وغُرفها العالية أن يتمتعوا بالنظر إلى هذه الأنهار بألوانها المُخْتَلِفة.
ذلك تصوير القَدر المُسْتطاع للعقل البشري، وليس فيه ما يُخالف نصًّا قاطعًا ولا حُكمًا مُقَررًا، ويكفينا من أوصاف الجنة ما جاء في القرآن وثبت في السُّنة، وهو كافٍ لإغرائنا بالجِد والعمل حتى نفوزَ بهذا النعيم، وحتى نرى بأنفسنا كيف تجري الأنهار من تحتها، وقد صحَّ في البخاري ومسلم أن النبي ـ ﷺ ـ قال: “بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قِباب اللؤلؤ المُجَوَّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوْثَر الذي أعطاك ربُّك، قال: فضرب المَلَكُ بيده فإذا طينه مِسْك أذفر ـ أي في أعلى الدرجات من طيب الرائحة”.