صح أن الرسول قال : ـ: “مَنْ رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يَتَمَثَّل بي”، وقد رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه ، ومعنى هذا الحديث عند المحققين ومنهم ابن سيرين : أن الشيطان لا يستطيع أن يتصور بصورة النبي التي كان عليها في حياته ، وهذه الصورة لا يعرفها إلا من رآه في حياته، أو استظهر شكله من الأحاديث الصحيحة التي تصفه ، على أن الأحاديث التي صحت في وصفه لا تكون ملامح تكفي للتعرف عليه في الرؤيا .

لكن الشيطان ليس ممنوعا من أن يأتي أحدا في منامه متشكلا بأي شكل حسن ، ويخبر النائم بأنه رسول الله كذبا وزورا .
والأمر في هذا سهل حيث إن النبي لا يؤخذ بكلامه شرعا إذا أتى أحدا في منامه حتى لو كان هو الآتي حقيقة؛ إذ إن الشرع قد اكتمل، والدين قد تم .

فمن رأى رسول الله يخبره بأنه من أهل النار مثلا فلا يقعد عن العمل، فشرع الله لا يكون بالرؤى والأحلام وقد اكتمل الشرع بوفاة رسول الله .

يقول الدكتور يوسف القرضاوي :-

إن رؤيا النبي ـ ـ في المنام آمرًا بشيء أو ناهيًا عن آخر، أو مُظْهرًا حبَّه لأمر أو شخص أو طائفة، أو مُبْدِيًا كراهته وسُخْطه على فرد أو جماعة أو موقف أو عمل ـ كل ذلك لا يُؤخَذ به، ولا يثبت بمِثْله حكم شرعي من وجوب أو استحباب أو تحريم أو كراهة أو إباحة، أو ولاء أو براءة أو عداوة .

وإنما يُعْرَض ما يكون من ذلك على الشريعة الثابتة المعصومة، فإن وافقها فبها ونِعْمتْ، وتكون الحُجَّة هي الشريعة، أما الرؤيا فللتأنيس فقط .

و إِنْ لم يُوافِق ذلك الشريعة رُفِض ولا شك؛ لأن الذي كَلَّفنا الله اعتقاده والعمل به هو ما أوحاه إلى رسوله في حياته، لا ما تجئ به رؤياه في المنام بعد وفاته. فإن الله لم يقبضه إليه إلا بعد أن أكمل الدين وأتمَّ النعمة، وترك الأمة على المحَجَّة البيضاء ليلها كنهارها، لا يَزِيغ عنها إلا هالك.

ذكر ابن حزم في “المُحَلَّى” أن بعضهم احتجَّ على مَنْع الصائم من القُبْلة في النهار بخبر عن ابن عمر قال فيه: قال عمر: رأيت رسول الله ـ ـ في المنام فرأيتُه لا يَنْظرُني، فقلتُ: يا رسول الله ؛ ما شأني؟ فقال: “ألستَ تُقَبِّل وأنت صائم”؟ قلتُ ـ القائل عمر ـ: فوالذي بعثك بالحق، لا أقبِّل بعدها وأنا صائم !
وعقَّب أبو محمد بن حزم على هذا الخبر بقوله: الشرائع لا تُؤْخَذ بالمنامات، لا سيما، وقد أفتى رسول الله ـ ـ عمر في اليقظة حيًّا بإباحة القُبْلة للصائم، فمِن الباطل أن يَنْسَخ ذلك ميِّتًا! نعوذ بالله من هذا. (المحلى: 6 / 507 طبعة الإمام ).
وذكر ابن حزم هنا الخبر الذي أخرجه أبو داود عن جابر قال، قال عمر بن الخطاب: هششْتُ فقَبَّلْتُ وأنا صائم. فقلتُ: يا رسول الله، صنعْتُ اليوم أمرًا عظيمًا: قَبَّلْتُ وأنا صائم! فقال رسول الله ـ ـ: “أ رأيتَ لو مَضْمَضْتَ من الماء وأنت صائم”؟ قلتُ: لا بأسَ به. قال: “فمَهْ”؟ (رواه أبو داود في الصوم برقم “2385”، وابن خزيمة في صحيحه “1999”، وابن حبان كما في “الموارد” برقم “905”، والحاكم في المستدرك وصحَّحه ووافَقَه الذهبي 1: 431 ).

فبيَّنَ له أن القُبلة من الجِماع المحظور، كالمضمضة من الشُّرب الممنوع، كلتاهما لا تُفْطِر؛ ولهذا يُستَدَلُّ بهذا الحديث على إثباتِ القياس؛ لأن النبي ـ ـ أثبت للشيءِ حكم نظيره، وهو القياس .
وأما قوله ـ ـ: “مَنْ رآني في المنام فقد رآني؛ فإن الشيطان لا يَتَمَثَّل بي”، فهو حديث صحيح رواه البخاري عن أنس، ومثله عن أبي سعيد الخدري: “مَنْ رآني فقد رأى الحق؛ فإن الشيطان لا يَتَكَوَّنُنِي”، وعن أبي قتادة: “إن الشيطان لا يتراءى بي “.
وعن أبي هريرة: “ولا يتمثل الشيطان بي”، أو “لا يَتَمَثَّل في صورتي”، وكلها عند البخاري، فصِحَّتُها مما لا ريب فيه.
ومثلها عند مسلم وابن ماجة من حديث جابر: “إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثَّل بي “.
ومعنى هذا الحديث برواياته كافَّة: أن الله أكرم نبِيَّه وأكرم أمته بأن منَع الشيطان أن يَظْهَر في صورته ـ ـ في الرؤيا؛ لئلا يَكْذِب على لسانه، ويُضَلِّل الأمة .
فمع أن الله أعطاه القُدْرة على التَّشَكُّل في أي صورة أراد، لم يُمَكِّنْه من التَّصوُّر في صورته ـ ـ فمن رأى النبي ـ ـ في الرؤيا، فقد رآه حقًّا، أو رأى الحق، كما صح عنه، فليست رؤياه من أضغاث الأحلام، ولا من وَسْوَسة الشيطان .

ومعنى الحديث، كما قال جماعة من العلماء: إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته، لا على صفة مُضَادَّة لحاله، فإنْ رُؤِي على غيرها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، فإن من الرؤيا ما يَخْرُج على وجهه، ومنها ما يحتاج إلى تأويل .
وهذا ما اعتمده إمام المُعَبِّرين للرؤى “محمد بن سيرين” ـ رحمه الله ـ فقد قال تعقيبًا على الحديث المذكور: “هذا إذا رآه في صورتِه”، كما علَّقَه عنه البخاري.

وذكر الحافظ في الفتح عن “أيوب” قال: كان ـ يعني محمد بن سيرين ـ إذا قصَّ عليه رجل أنه رأى النبي ـ ـ قال: صِفْ لي الذي رأيته ـ فإن وصف له صِفَة لا يَعْرِفُها، قال: لم تَرَه. قال الحافظ: سنده صحيح. ووجدتُ له ما يُؤَيِّده، فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدَّثني أبي، قال: قلتُ لابن عباس: رأيت النبي ـ ـ في المنام، قال: صِفْه لي، قال: ذكرتُ الحسن بن عَلِي، فشبَّهْتُه به، قال: قد رأيتَه، وسنده جيد. (فتح الباري: 16 / 38 ).

وهذا القول من ابن عباس من الصحابة، ومن ابن سيرين من التابعين، يدل على أنه ليس كل مَنْ رأى شخصًا في المنام خُيِّل إليه أنه رسول الله، يكون قد رأى رسول الله حقًّا .
وعلى ذلك جرى علماء التعبير، فقالوا: إذا قال الجاهل: رأيت النبي ـ ـ فإنه يُسْأَل عن صفَته، فإن وافق الصفة المَرْوِيَّة ـ أي في كُتُب الحديث والسيرة ـ وإلا فلا يُقْبَل منه. (المرجع السابق ص 42 ).
ومن جهة أخرى، فإن النائم ليس من أهل التحمُّل للرواية؛ لعدم ضبطه وحفظه. (انظر: إرشاد الفحول للشوكاني ص 249، الطبعة الأولي ـ طبعة مصطفى البابي الحلبي ـ 1937 ).
فلا يُؤخَذ ما قاله بعد يقظته حُجَّة مُطْلَقة.

وبهذا كله نَعْلَم أن لا حُجَّة للمُنْحَرِفين والمُبْتَدِعين في اتِّخاذِهِم المَنامات والرؤى دليلاً يَسْتَنِدُون إليه، مُبَرِّرين بها بِدَعهم وانحرافاتِهم التي ما أنزل الله بها من سلطان .